على الرغم من أنّ إهتمامات اللبنانيّين في المرحلة الراهنة مُنصبّة على أعمالهم المُهدّدة ورواتبهم المُقتطعة وودائعهم المصرفيّة المَحجوزة وعلى قُدراتهم الشرائيّة المُتراجعة... وهم يترقّبون ما ستؤول إليه الأمور مع الصندوق الدَولي، لما لهذا الأمر من إنعكاسات مُباشرة على المُستويات المعيشيّة والحياتيّة في لبنان، فإنّ الأحزاب والتيارات السياسيّة، تُعاني كلّها تقريبًا، من حال تخبّط كبير، ويبدو أنّ بوادر حلف سياسيّ جديد تُطلّ برأسها. فما هي المُؤشرات والمُعطيات في هذا الصدد؟.

خلال جلسة منح الثقة للحُكومة، تظهّرت حقيقتان: الأولى أنّ الأكثريّة النيابيّة المُتمثّلة من تحالف "التيّار الوطني الحُرّ" مع "الثنائي الشيعي" الذي يحضن بدوره عددًا من الأحزاب والكتل الصغيرة مثل "اللقاء التشاوري" و"تيّار المردة" و"الحزب القومي السُوري الإجتماعي" وبعض الشخصيّات النيابيّة المُستقلّة، هي أكثريّة غير مُتماسكة، وقد لا تكون قادرة على تأمين نصاب النصف زائد واحد في المجلس النيابي في الإستحقاقات الكبرى، ما لم يتم جمع وإحضار كل النوّاب فيها. والحقيقة الثانية التي تظهّرت أيضًا خلال ​جلسة الثقة​ الأخيرة، أنّ المُعارضة الحاليّة والتي باتت تتكوّن من كلّ من "تيّار المُستقبل" وأحزاب "القوات اللبنانيّة" و"​التقدمي الإشتراكي​" و"الكتائب اللبنانيّة"، إضافة إلى كتلة "الوسط المُستقل" وبعض الشخصيّات النيابيّة المُستقلّة، ليست مُوحّدة ولا مُتماسكة، حيث أنّ كلّا منها "يُغنّي على ليلاه"–إذا جاز التعبير، ولا بوادر للعودة إلى أيّإصطفافات سياسيّة مُوحّدة، كما كان الوضع عليه في السابق. والقاسم المُشترك بين مُختلف القوى السياسيّة، إن الممثلّة بشكل غير مُباشر في السُلطة التنفيذيّة، أو غير المُمثّلة في الحكومة الحاليّة، أنّ الجميع يعتبر نفسه غير مسؤول عمّا آلت إليه الأمور في لبنان، ويُلقي المسؤولية على سواه!.

وبحسب التوقّعات، فإنّ هذا النهج القاضي بالتملّص من المسؤوليّات وبتقاذفها، سيطبع المرحلة السياسيّة المُقبلة في لبنان. فالخروج من الأزمة الإقتصاديّة–الماليّة الحادة التي يُعاني منها لبنان حاليًا، يحتاج لسنوات من العمل الدؤوب، والأخطر أنّه يحتاج لإجراءات قاسية على مستوى الضرائب والرسوم ورفع الدعم عن مواد حياتيّة أساسيّة، الأمر الذي سيدفع كل جهة إلى إلقاء التهم والمسؤولية على سواها، خوفًا من تزايد نقمة الرأي العام الغاضب حاليًا على الطبقة السياسيّة ككل، مع بعض الإستثناءات.

وطبيعة الدعوات التي سبقت مهرجان ذكرى "14 شباط"، وطبيعة الخطابات المُنتظرة خلاله، سترسم قطيعة خطيرة بين الركنين الأساسيّين في "التسوية الرئاسيّة" التي كانت قد أوصلت العماد ​ميشال عون​ إلى سدّة رئاسة الجُمهوريّة، وكذلك رئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​ إلى رأس السُلطة التنفيذيّة، خلال أوّل حكومتين من العهد الرئاسي، أي بين "التيّار الوطني الحُرّ" و"تيّار المستقبل". وفي حين سيُحاول "المُستقبل" إستغلال هذه الحملات، لإعادة العصبيّة إلى مُناصري "التيّار الأزرق" ومؤيّديه، وكذلك بهدف الرد على تحميل "الحريريّة السياسيّة" مسؤولية الإنهيار، ستسعى "القوات" بدورها إلى إستكمال معركة التحجيم المُتبادلة مع "التيّار"، منذ سقوط "تفاهم ​معراب​" بين الطرفين، مع العمل على ردّ الصاع صاعين لإبعادها عن الحكم من خلال المُساهمة في إفشال العهد. من جهة أخرى، سيسعى "الإشتراكي" بدوره إلى العمل على إستعادة دوره كبيضة قُبّان ضُمن التوازنات اللبنانيّة الداخليّة، من خلال لعب دور معارض للحكم حينًا، والتجاوب مع مطالب رئيس مجلس النوّاب ​نبيه برّي​ لتأمين النصاب أو لدعم بعض القرارات التشريعيّة حينا آخر، وكذلك من خلال الإنضمام إلى المعارضة المُستقبليّة والقوّاتيّة على القُطعة، أي على بعض المشاريع والقرارات دون سواها، والإبتعاد عنهما في قرارات أخرى.

ويبدو واضحًا أنّ "التيّار البرتقالي"، ومن خلفه العهد الرئاسي، سيتعرّضان لهجمات سياسيّة وإعلاميّة حادة، من قبل "المُستقبل" وبدرجة ثانية من قبل "القوات" و"الإشتراكي"، كلّ من موقع مستقل ومختلف، ولأهداف مُتباينة أيضًا. والمُفارقة أنّ هذه الحملات لن تقتصر على هذه القوى فحسب، بل ستنضم إليها قوى أخرى من داخل الجهات السياسيّة المَحسوبة على "محور ​المقاومة​ والمُمانعة"، لإعتبارات تشمل الطموح الرئاسي لبعض القوى مثل "تيّار المردة"، ولإعتبارات تشمل التحجيم السياسي لبعض القوى الأخرى مثل "الحزب القومي"، وحتى لإعتبارات مرتبطة بالعمل على إضعاف رئيس "التيّار الوطني الحُر" الوزير السابق ​جبران باسيل​، بعد أن كان قد لعب أدوارًا مركزيّة على مُستوى القرار خلال النصف الأوّل من العهد. ولن يكون "حزب الله" قادرًا على ضبط التحالفات ضُمن هذا المحور سوى على الأمور الإستراتيجيّة الكبرى، حيث أنّ سعي مُختلف الأطراف إلى إرضاء جمهورها، وإلى مُحاولة إستمالة الرأي العام اللبناني، ستحول دون تكوّن تحالفات سياسيّة متينة.

وإنطلاقًا ممّا سبق، يُمكن القول إنّ التحالف السياسي الوحيد الذي سيُطلّ برأسه خلال المرحلة المُقبلة، هو تحالف "كل مين إيدوإلو"–إذا جاز التعبير، حيث أنّ كل القوى السياسيّة ستنفض يدها من الأزمة الإقتصاديّة–الماليّة التي ستطال اللبنانيّين، وستُحاول تحميل مسؤوليّة الأزمة للآخرين. وكلّما إقتربنا من نهاية العهد الرئاسي الحالي، كلّما ستشتدّ الحملات على "التيّار الوطني الحُر"، تمهيدًا لإرساء تركيبة سياسيّة جديدة، مُختلفة عن تلك التي أوصلت العماد عون إلى منصب الرئاسة.