منذ ​تشكيل الحكومة​ ​الجديدة​ وحتى قبل نيلها الثقة، لم تظهر في الأفق أيّ "مفاجآتٍ نوعيّة" لجهة مواقف مختلف الفرقاء منها، سواء في العَلن أو خلف الكواليس، على رغم "التباينات" التي ظهرت حتى داخل معسكري الموالاة والمعارضة، وفقاً لـ"مصلحة" مختلف مكوّناتهما.

لكنّ "المفاجأة" برأي كثيرين، حملتها جلسة مناقشة ​البيان الوزاري​ على ألسنة بعض "عرّابي" الحكومة، وعلى رأسهم "​حزب الله​" الذي أعلن رئيس كتلته النيابية النائب ​محمد رعد​ أنّها لا تشبه فريقه السياسي، "إلا أنّه لتسهيل مهمّة التأليف ارتضينا بها"، في موقفٍ أثار الكثير من الجدل في الأوساط السياسية.

ومع أنّ وجهات نظر "الحزب" وحليفه "​التيار الوطني الحر​" اختلفت بعض الشيء في مرحلة التأليف، إلا أنّها تقاربت مجدّداً في جلسة البرلمان، الأمر الذي تجلّى بوضوح في كلمة الوزير ​جبران باسيل​، الذي غلّب مصطلح "الفرصة" على "الثقة"، متحدّثاً عن الحكومة وكأنّ لا علاقة له بها أو بتشكيلها.

وبين كلمتي رعد وباسيل الجدليّتيْن، يصبح السؤال مشروعاً، فهل قدّم "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" ورقة "براءة ذمة" من الحكومة قبيل انطلاقتها الفعليّة؟ ولماذا يتنصّلان من حكومةٍ تشير كلّ المعطيات إلى دورٍ مفصليّ لعباه في تشكيلها، وصولاً إلى إبصارها النور؟!

هروب إلى الأمام؟!

منذ إسقاط رئيس الحكومة الأسبق ​سعد الحريري​ وإخراجه من السباق إلى ​رئاسة الحكومة​، نتيجة إصراره على شرط ترؤس ​حكومة تكنوقراط​، لا مكان للسياسيّين أو المحسوبين عليهم فيها، لعبت الدعاية السياسية دورها في توجيه الأنظار نحو "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" دون سواهما، باعتبار أنّهما يقفان ضدّ إرادة الناس، ويريدان تشكيل حكومة مستنسَخة عن تلك التي أسقطها الشعب.

لم يخفّ وهج هذه الدعاية مع تكليف حسّان دياب، وإعلان الأخير أنّه مصمّمٌ على تشكيل حكومة من اختصاصيّين مستقلّين، ليس لأنّ أحداً لم يصدّق الرجل، الذي بدا راغباً في مكانٍ ما في تحقيق التغيير، ولكن لأنّ الوقائع على الأرض كانت تكذّبه، خصوصاً لجهة الصراع على الحصص والحقائب الذي وصل إلى أوجه مع تقاذف الاتهامات بين الحلفاء المفترضين، وذهاب بعض القوى السياسية إلى المطالبة الصريحة بحقائب من نوعٍ أو حجمٍ محدَّدٍ، من دون أيّ اعتبار للصورة المستجدّة بعد انتفاضة السابع عشر من تشرين الأول.

ومع أنّ الحكومة حملت في النهاية أسماء اختصاصيّين قد يكونون من الأفضل في تاريخ الحكومات في ​لبنان​، إلا أنّ "صيتها" سبقها، معطوفاً على بعض "الثغرات" التي حملتها التركيبة التي لم تنجُ من فخّ "إسقاط" بعض الأسماء على الحقائب، لتأتي النتيجة في الحكومة مطابقة برأي كثيرين للدعاية التي سبقتها، خصوصاً بعد تبلور حصصٍ واضحةٍ لكلٍّ من "حزب الله" و"الوطني الحر"، على غرار غيرهما من الأفرقاء، وإن كانا يصرّان على أنّ الوزراء المحسوبين عليهما غير منتسبيْن ولا منظميْن.

من هنا، تأتي القراءة الأولية لـ"تنصّل" الحزبيْن من الحكومة، على أنّه ينخرط ضمن ​سياسة​ "الهروب إلى الأمام" التي يعتمدانها، تجنّباً لمواجهة الناس، وحتى لا يتمّ تحميلهما وزر "الانهيار" الحاصل، خصوصاً بعد تموضع معظم من كانوا في الحكم على امتداد العقود السابقة في خانة المعارضة، علماً أنّ النائب محمد رعد سبق أن وجّه لهؤلاء "رسائل" واضحة في هذا السياق، حين توجّه إليهم بالقول إنّه "ممنوع الهروب والتخلي عن المسؤوليات"، مضيفاً: "إن شاركتم أو لم تشاركوا في الحكومة، فأنتم معنيّون، ولن ندعكم وشأنكم".

"خدمة" للحكومة!

بين الهروب إلى الأمام، ورفض تحمّل المسؤولية بصورةٍ فرديّة، تتفاوت القراءات إذاً لـ"براءة الذمّة" التي يقدّمها "عرّابو الحكومة" اليوم، ولا سيما "حزب الله" و"التيار الوطني الحر"، مع أنّ القاصي والداني يعلمان أنّ الحكومة ما كانت لتُشكّل من دون غطائهم، بل من دون شروطهم وإملاءاتهم.

إلا أنّ "براءة الذمّة" هذه لا تندرج، وفق قراءةٍ سياسيّةٍ تحمل الكثير من الواقعيّة، ضمن "الذمّ" بالحكومة، بل على العكس من ذلك، قد تكون في جانبٍ أساسيّ، "خدمةً" للحكومة، وفي سبيل تحقيق مصلحتها، وذلك انطلاقاً من الظرف الاستثنائيّ الذي تمرّ به البلاد.

ولعلّ "حزب الله" على وجه التحديد، شعر بضرورة توجيه مثل هذه الرسالة، في مواجهة الدعاية السياسية التي رافقت تشكيل الحكومة، وصوّرتها على أنّها حكومة "حزب الله"، خصوصاً من جانب بعض القوى الداخليّة المُعارِضة، الأمر الذي إن تمّ تعميمه، يمكن أن يشلّ الحكومة ويقيّدها، ويمنعها بالتالي من تحقيق أيّ من أهدافها التي وضعتها في عناوين بيانها الوزاريّ.

وقد تكون "كلمة السر" على هذا الصعيد مرتبطة بموقف الخارج منها، خصوصاً بعد ما قيل في مرحلةٍ من المراحل، أنّ هناك "حصاراً" سيُفرَض على الحكومة، وأنّ أحداً لن يتعامل معها سواء من ​الدول العربية​، وتحديداً الخليجية، أو حتى الغربية، بسبب احتسابها على "حزب الله"، مع أنّ هذا الخارج تعامل سابقاً مع حكوماتٍ كان "حزب الله" فيها ممثَّلاً بشكلٍ رسميّ ومباشر، ومن داخل كادره التنظيميّ.

ولا يختلف موقف "التيار" كثيراً، خصوصاً بعدما راج في الآونة الأخيرة عن "نوايا" لوضع اسم الوزير باسيل ضمن لائحة "العقوبات" الأميركية، إلا أنّ "التنصّل" يرتبط أيضاً بالحملة المباشرة على وزير الخارجية السابق، الذي يُجمِع المراقبون على أنّ اسمه كان الأكثر تداولاً وشيوعاً في أوساط ​المتظاهرين​ الناقمين على الطبقة السياسية منذ تشرين الأول، بمُعزَلٍ عن "الدافع" الحقيقيّ خلف ذلك.

ولعلّ باسيل، الذي سمع كثيراً بأنّ الحكومة الحاليّة هي "حكومته"، على رغم أنّها الحكومة الأولى منذ سنوات التي يكون فيها خارجها، بعدما كسر قاعدة "الفصل بين النيابة والوزارة" التي لطالما كرّسها تيّاره في الحكومة السابقة ليكون داخلها، فهم "الرسالة"، فحرص على الوقوف على مسافةٍ من الحكومة، وهو ما ظهر في كلمته في ​مجلس النواب​، التي لعب فيها دور "الناصح عن بُعد"، داعياً إلى إعطاء الحكومة فرصة، ليس لشيءٍ إلا لأن "لا بديل" في الوقت الحاضر.

الضحية والجلاد...

يحاول "حزب الله" و"الوطني الحر" الابتعاد، ولو نسبياً، عن الحكومة، لعدّة اعتبارات أو حسابات، أولها تفادي أيّ "حَرَج" يمكن أن يشلّ الحكومة في هذا الظرف الاستثنائيّ، خصوصاً إذا ما تمّ التعاطي معها على أنّها حكومة "حزب الله"، الذي يزداد الحظر عليه في الكثير من العواصم العربيّة والغربيّة.

بيد أنّ الاعتبار الأهمّ يبقى ذلك المرتبط بالخوف من "فشل" الحكومة، ربطاً بـ"العجز" المتوقع إزاء ما ينتظرها، وهو ما دفعها أصلاً إلى تغيير تسميتها من "الإنقاذ" إلى "مواجهة التحديات"، وبالتالي فإنّ "التيار" و"الحزب" لا يريدان أن يكونا مشاركيْن في أيّ فشل، لو حصل.

لكن، بعيداً عن النوايا والحكم عليها، يبقى الأكيد أنّ المجهول الذي تتّجه إليه البلاد لن يُحمَّل لوزراء بذاتهم، بل لقوى سياسية تحكّمت بالأخضر واليابس على مدى سنوات، وتحاول اليوم لعب دور "الضحية"، متجاهلةً أنّها مجتمعةً، تمثّل "الجلّاد"، الذي قضى على وطنٍ عن بكرة أبيه...