يوماً بعد آخر، تزداد المساعي لـ"محاصرة" العهد، ممثَّلاً برئيس الجمهورية ​ميشال عون​، تارةً بسبب الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي وصلت البلاد إليها، وطوراً على خلفيّة الصدام مع رئيس "​التيار الوطني الحر​" الوزير جبران باسيل، أو "رئيس الظلّ" كما وصفه رئيس الحكومة الأسبق ​سعد الحريري​.

آخر هذه المساعي أطلقها رئيس "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" وليد جنبلاط الأسبوع الماضي، حين طالب بـ "اصطفاف وطني عريض" يدفع باتجاه استقالة عون، ملمّحاً إلى عدم قدرته على التصدّي لذلك وحيداً، ومذكّراً بـ"جبهة وطنية" شُكّلت في العام 1952، ودفعت بالرئيس آنذاك بشارة الخوري إلى الاستقالة في نهاية المطاف.

ومع أنّ "إسقاط العهد" وُضِع أكثر من مرّة من ضمن "الأهداف" التي بلورها الحراك الشعبيّ، بدفعٍ من بعض القوى والأحزاب السياسية المعروفة، فإنّ كلّ المؤشّرات تدلّ على أنّ "الجبهة" التي تحدّث عنها "البيك" لا تزال "يتيمة"، بل فاقدة للحدّ الأدنى من "المؤازرة" المطلوبة، الأمر الذي يترجَم بارتياح "الوطني الحر" الذي تبدو أوساطه مطمئنّة أنّ عون لن يسقط مهما كلّف الأمر...

جنبلاط وحيداً...

لا يبدو أنّ كلام النائب السابق وليد جنبلاط حول الدفع باتجاه استقالة رئيس الجمهورية، وجد من يتلقّفه بين القوى المعارضة للحكومة وللعهد، وحتى بين الكثير من الشخصيات السياسية المعروفة بخصومتها الشرسة للرئيس عون، ولـ"التيار الوطني الحر"، بل بنفورها من "العهد"، وكلّ ما يمثّله.

فإذا كان جنبلاط ألمح إلى وجوب تشكيل "جبهة وطنية" تؤازره في هذا المسعى، فإنّ كلّ المعطيات دلّت على أنّ أحداً من "حلفائه المفترضين" الذين أراد أن يكونوا "نواة" هذه الجبهة لن يكونوا من المتحمّسين للانضمام إليها، باستثناء بعض الوجوه التي لم تعد تحظى بأيّ حيثيّة تمثيليّة مؤثرة يمكن التعويل عليها.

ولعلّ رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري أطلق في خطابه الأخير في ذكرى الرابع عشر من شباط رسائل واضحة في هذا السياق، فهو وعلى رغم حرصه على "تمتين" علاقته بجنبلاط، الذي يكاد يكون الوحيد الذي حظي بعبارات الثناء والإشادة، إلا أنّه أبدى الحرص نفسه على "تحييد" رئيس الجمهورية، ولو نسبياً، عن صراعه مع "الوطني الحر"، وتحديداً مع الوزير جبران باسيل.

وكان لافتاً في هذا الإطار، تأكيد الحريري احترامه وتقديره للرئيس عون، توازياً مع حديثه عن "تعامله مع رئيسيْن" على امتداد السنوات الثلاث الأخيرة، بل ذهب أبعد من ذلك بقوله إنّ "عون يعرف مدى احترامه لديّ، ويدرك أنني أحفظ مواقفه معي، تماماً كما أنّه يحفظ مواقفي معه"، وهو ما ربطه كثيرون بالمواقف التي كان أطلقها عون خلال مرحلة ​استقالة الحريري​ الشهيرة من ​السعودية​ وما أحاط بها من ظروف لا يزال الغموض يكتنفها، بشكلٍ أو بآخر، حتى اليوم.

وإذا كان الحريري أوحى بمواقفه هذه أنّه لا يمكن أن يكون جزءاً من "جبهة" مصوَّبةٍ على عون بالتحديد، فإنّ الأكيد أنّ "​القوات اللبنانية​" مثلاً لا يمكن أن تشكّل البديل المطلوب، علماً أنّ قياديي "القوات" لطالما ميّزوا بين الحراك ضدّ الحكومة والتصويب على رئاسة الجمهورية، التي لا تزال مصنَّفة ضمن "الخطوط الحمراء" طائفياً ومذهبياً، أقلّه من منظار المرجعية الدينية أي بكركي، وهو ما يفسّر انكفاء "القوات" وغيرها عن الخوض في أيّ معارك تعتبرها غير واقعيّة على خطّها.

حصانة وأكثر...

هكذا، يبدو واضحاً أنّ "الحملة" المُطالبة بإسقاط عون تصطدم بتعقيداتٍ في الأوساط المعارضة لرئيس الجمهورية أولاً، والتي لا تبدو متّفقة على جدوى الخوض في مثل هذه المعركة، أقلّه قبل الذهاب إلى انتخاباتٍ نيابيّةٍ تغيّر الطاقم السياسيّ، إن كان مثل هذا الطموح المشروع واقعياً أصلاً، بالنظر إلى التركيبة اللبنانيّة المعروفة بطبيعتها وحساسيّاتها التي لا تنتهي.

لكن، في مقابل "الارتباك" في صفوف المعارضة في "تشخيص" المعركة مع "العهد"، وطبيعة الأدوات المُتاحة فيها، يبدو أنّ "التيار الوطني الحر" غير قَلِقٍ على الإطلاق على الرئيس عون، ليس فقط لناحية "صموده" في بعبدا، الذي تعتبره أوساط "التيار" تحصيلاً حاصلاً حتى الدقيقة الأخيرة من ولايته، ولكن أيضاً لناحية "صدّ" أيّ حملات يمكن أن تُنظَّم في مواجهته، علماً أنّ "العونيّين" يؤكدون أنّ السيناريو الذي واجهه الرئيس السابق ​إميل لحود​ الذي تعرّض للعزلة على وقع حملة "فِلّ" الشهيرة التي استهدفته، لا يمكن أن "يُستنسَخ" مع عون بأيّ شكلٍ من الأشكال.

وتشير أوساط "التيار" في هذا السياق إلى أنّ "العلامة الفارقة" الأهمّ، التي تجعل واقع اليوم مختلفاً عمّا حصل في عهد لحود، تكمن في "الحصانة" التي يملكها عون، ليس على المستوى السياسيّ فحسب، وهو الذي يتكئ على قاعدةٍ نيابيّة ووزاريّةٍ عريضةٍ، فضلاً عن تحالفاتٍ متينةٍ عابرةٍ للطوائف والمذاهب، ولكن قبل ذلك على المستوى الشعبيّ، نظراً للحيثيّة التي يملكها الرجل، والتي لا تزال تترجَم بين الفينة والأخرى، سواء من خلال "الحروب الافتراضيّة"، أو "المناوشات" التي تحصل على الأرض.

ويقول "العونيّون" إنّ جمهور "التيار" سينزل إلى الشارع من تلقاء نفسه إذا ما شعر بأيّ "تهديدٍ" لموقع "الجنرال"، بمُعزَلٍ عن كلّ اعتبارات "ضبط النفس" أو "تفهّم الغضب الشعبيّ" وغيرها من الحسابات التي تتحكّم به اليوم، علماً أنّ التحرّك الذي دعا إليه "التيار" أمام ​مصرف لبنان​ الخميس المقبل، قد يكون "أول الغيث" على هذا الصعيد، أو ربما "بروفا" إن جاز التعبير.

وأكثر من ذلك، لا تتردّد أوساط "الوطني الحر" في اعتبار الحملة ضدّ عون، ومن خلفه "التيّار"، مشبوهة بامتياز، باعتبار أنّ تحميل "العهد" مسؤولية أوضاع البلاد لا تستقيم، خصوصاً عندما يصدر الاتهام من أفرقاء شكّلوا "ثابتة" كلّ العهود المتعاقبة، والتي كرّست نهج ​المحاصصة​ و​الفساد​، ويتصرّفون اليوم كما لو أنّ لا ناقة لهم ولا جمل في ما يحصل.

صراعٌ حامٍ...

في لبنان هذه الأيام، صراعٌ حامٍ بين الانهيار والإنقاذ، صراعٌ بات يقرّ بواقعيّته حتى من كان يكابر في إنكار حراجة الوضع الذي وصلت إليه البلاد، انسجاماً مع المصلحة السياسيّة، وخشية "الصيت السيء" الذي تجلبه مثل هذه التصريحات.

لكن، وسط هذا الصراع، لا يزال هناك من يجد الوقت لـ"التلهّي" بمعارك هامشيّة لا تسمن ولا تغني من جوع، قد تكون المعركة لإسقاط "العهد" واحدة منها، على الأقلّ في هذه المرحلة، حيث الأولويات يجب أن تكون لتضافر الجهود لمنع "الإفلاس"، لا الذي تحقّق بالمعنى السياسيّ، ولكن أيضاً بالمعنى الحرفيّ اقتصادياً ومالياً.

وإذا كان هناك من يجد الفرصة مناسبة للاستعراض، سواء عبر إطلاق الحملات الافتراضية، أو عبر الردّ عليها بشعاراتٍ فضفاضةٍ، فإنّ الهاجس الأكبر الذي يجب أن يبقى مسيطراً على الجميع، يكمن في أن الانهيار سيشكّل هزيمةً للجميع، ولن يبقى معه حجر على حجر لا للاحتفال بإزاحة رئيس، أو صمود آخر!.