كان يمكن لتحرّك "​التيار الوطني الحر​" أمام ​مصرف لبنان​ أن يمرّ مرور الكرام، من دون طنّةٍ ورنّةٍ، خصوصاً أنّه بدا "ثانوياً" في ظلّ المشهد السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ المأزوم الذي تشهده البلاد، وفي ضوء التظاهرات التي سبق أن نُظّمت أمام المصرف المركزيّ وغيره من المصارف على امتداد العاصمة.

أكثر من ذلك، كان يمكن لتحرّك "التيار" أن يحمل بين طيّاته "سلبيّات" أكثر من "الإيجابيّات"، في ضوء الانتقادات التي استبقته، حول "انفصامٍ" تارةً، و"تنصّلٍ من المسؤولية" تارةً أخرى، باعتبار أنّ "الوطني الحر" لم يحافظ على مركزه في السلطة منذ سنواتٍ طويلة فحسب، بل كان من الممدّدين لحاكم مصرف لبنان ​رياض سلامة​ الذي يصوّب عليه اليوم.

كلّ ذلك كانت تفترضه "الواقعية" في مقاربة الأحداث، "واقعية" غابت مجدّداً عن أرض الواقع، ليتحوّل تحرّك "التيّار" إلى "الحدث" بامتياز، بدَفْعٍ من مناصري "الحزب التقدّمي الاشتراكي"، الذين شعروا بـ"الاستفزاز"، فقرّروا "التصدّي" لخصومهم على الأرض، مستعيدين بذلك مشهديّة "قبرشمون" المشؤومة...

"قبرشمون" في "الحمرا"؟!

أعادت "المواجهة" بين "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" و"التيار الوطنيّ الحر" إلى الأذهان، صورة "المواجهة" التي سبق أن دارت بين الحزبيْن قبل أشهر، ولكن في منطقة قبرشمون الشوفيّة، على هامش زيارة كان يقوم بها رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير ​جبران باسيل​ إلى المنطقة، في إطار جولاته المناطقيّة الدوريّة.

ومع أنّ "التبريرات" التي أعطيت يومها للاشتباك أثارت الكثير من الجدل الذي لم يُقفَل بعد، إلا أنّها وجدت من "ينسجم" معها، على أساس أنّ الوزير باسيل "استفزّ" مناصري الحزب "الاشتراكي" في عقر دارهم، متعمّداً "تجاهل" زعيم المختارة النائب السابق ​وليد جنبلاط​، أقلّه وفق روايتهم، بمُعزَلٍ عن كونها تحوّل الجبل إلى "محميّة طائفية"، لا منطقة لبنانية مفتوحة لجميع اللبنانيين من دون تمييز أو استثناء.

لكن، إذا كان مثل هذا "السيناريو" غريباً في قلب الجبل، فكيف بالحريّ عندما "يُستنسَخ" في قلب العاصمة بيروت، وتحديداً في منطقة الحمرا؟ وبمعنى آخر، من أراد تحويل "الحمرا" إلى "قبرشمون" ثانية؟ وهل يكفي قرب الموقع الجغرافي لدارة جنبلاط من مصرف لبنان ليبرّر ما حصل؟!.

يصنّف "الاشتراكيّون" ما حصل على أنّه "ردّة فعل" من مناصري الحزب على دعواتٍ "مشبوهة" تمّ تداولها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومجموعات "الواتس أب"، حول "نوايا" عددٍ من محازبي "التيّار" تمديد اعتصامهم ليصل إلى دارة جنبلاط، ويتحدّثون عن "استفزازاتٍ" أظهرها البعض، كإصرار أحدهم على ركن سيارته أمام حاجز دارة جنبلاط، وإبراز آخر لسلاحٍ رشّاش، وكلّها مشاهد كانت كفيلة بـ"إغاظة" مناصري الحزب الذين كانوا "متأهّبين" أصلاً.

لكنّ هذه التبريرات التي تصل إلى حدّ القول إنّ "الاشتراكيين" نزلوا دفاعاً عن زعيمهم بعد شعورهم بـ"تهديد" لدارته، لا تبدو مقنعة بالحدّ الأدنى من وجهة نظر قيادة "التيار"، التي تلفت أوساطها إلى أنّ التحرّك كان مُبرمَجاً منذ أيام، ولم يكن عفوياً أو تلقائياً أو مباغتاً، وأنّ أحداً لم يتعرّض لقيادة "الاشتراكي" أو زعيمه من قريب أو من بعيد، خصوصاً أنّ هدف التظاهرة كان واضحاً، ومرتبطاً بـ"الوجع" الذي يعبّر عنه جميع اللبنانيين من المصارف وسياساتها.

المواجهة مستمرّة...

بالنسبة إلى قيادة "الوطني الحر"، فإنّ "المشبوه" في كلّ "المعمعة" التي حصلت، تمثّل في تحرّك "الاشتراكي" غير المُبرَّر ولا المُنسَّق، والذي كان يمكن أن يقود البلاد إلى المجهول، أو أن "يستنسخ" حادثة قبرشمون المشؤومة، والتي شلّت عمل الحكومة السابقة لفترةٍ طويلةٍ، وتركت ندوباً لا يبدو أنّها انتهت، على رغم "المصالحة" الصُوَريّة التي أبرمت في وقتٍ لاحق برعاية رئيس الجمهورية.

ولا يتردّد "العونيّون" في ربط شعور "الاشتراكي" بالاستفزاز، بإخلاصه لحاكم مصرف لبنان، خصوصاً في ضوء ما يُحكى عن "خدمةٍ" قدّمها لجنبلاط مع بدء أحداث السابع عشر من تشرين لتحويل أمواله إلى الخارج، وإن بقي كلاماً بلا دليل حسّي، وهو أمرٌ يعتبر "العونيّون" أنّه مثّل "خطيئة سياسية" كبرى ارتكبها "الاشتراكيون"، علماً أنّ تحرّك "التيار" كان محصوراً بقضية تحويل الأموال، ولم يكن الهدف منه حتى المطالبة بإقالة سلامة، بخلاف ما روّجت له بعض الأقلام القريبة أو البعيدة من "التيّار".

لكن، وبعيداً عن "حيثيّات" التحرّك بالدرجة الأولى، والإشكال على هامشه بالدرجة الثانية، يبدي "العونيّون" امتناناً لقيادة "الاشتراكي" لكونها أعطت تحرّكهم ما يفوق حجمه المقرَّر، ووضعته في صدارة الأخبار والاهتمامات، علماً أنّ ساحة مصرف لبنان شهدت سابقاً العديد من الاعتصامات والتظاهرات التي لم تحظَ بالاهتمام نفسه، مع تسجيلهم في الوقت نفسه "مفارقة" مثيرة للاهتمام، تتمثّل في "دفاع" بعض "الثوار"، فضلاً عن المحسوبين على جنبلاط، عن سلامة، ولو من باب "النكاية" بـ "التيّار"، لا أكثر ولا أقلّ.

عموماً، إذا كان المنطق يفترض أنّ ما حصل على الأرض هو جزء من "المواجهة" التي كان جنبلاط دشّنها بدعوته إلى تشكيل جبهة وطنيّة بعنوان "إسقاط العهد"، فإن الأكيد كما يؤكد المتابعون أنّ هذه "المواجهة" ستستمرّ بوتيرة تصاعديّة في القادم من الأيام، ولكن في السياسة، خصوصاً أنّ كلاً من الفريقين تموضع في مواجهة الآخر، وأنّ كلّ الأسلحة ستكون "مشرَّعة" في سبيل ذلك، ولو أنّ كثيرين يعتقدون أنّ الأمر لا يعدو كونه "بروباغندا" باعتبار أنّ المصالح المشتركة ستتفوّق في نهاية المطاف على كلّ الاختلافات، مهما صغر أو كبر حجمها.

تقديس وتمجيد!

على خطورة المشهد الذي كان يمكن أن تذهب إليه البلاد، على خلفية الإشكال بين "الوطني الحر" و"الاشتراكي" أمام مصرف لبنان، قد يكون من المُجدي التوقف عند الشعارات "الرنّانة" التي تمّ إطلاقها من الطرفين على حدّ سواء.

فتوازياً مع شعار "الهيلا هيلا هو" الذي وجد فيه "الاشتراكيون" ضالتهم، صدحت شعاراتٌ أكثر خطورة وإن خلت من الشتائم، على غرار "حيّدوا نحنا اشتراكيي حيّدوا... وليد بيك بعد الله منعبده"، و"بالروح بالدم نفديك يا وليد"، وفي المقابل "الله لبنان عون وبس"، وغيرها من الشعارات الواضحة الدلالات.

إن كان ذلك يدلّ على شيء، فعلى أنّ منطق "التمجيد والتقديس" لم ينتهِ فصولاً مع "ثورة 17 تشرين"، وأنّ "التبعية للزعيم" تتمدّد أكثر فأكثر، شأنها شأن الخطوط الحمراء، ولو وفق قاعدة "النكاية" بالآخرين، كما حصل بالأمس إزاء رياض سلامة، وقد يتكرّر غداً إزاء آخرين، ما يدفع إلى التساؤل عن مصير "لبنان الجديد" الذي يصبو إليه الكثيرون، بعيداً عن طبقةٍ سياسيّة أوصلت البلد إلى قعر الهاوية...