منذ تكليفه تشكيل الحكومة وحتى نيله ثقة البرلمان، كان لافتاً حرص رئيس الحكومة حسّان دياب على "النأي بالنفس" عن الانقسامات السياسية العمودية، وعلى الوقوف على مسافة واحدة من مختلف الأفرقاء، بمن فيهم من سارعوا إلى التموضع في صفّ معارضة حكومته.

ولم يشذ دياب عن هذه "القاعدة"، خصوصاً على صعيد تعامله مع رئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​، حتى يوم قرّر الأخير "التمرّد" بشكلٍ كاملٍ ضدّه بعيد تكليفه، قبل أن يعيد تموضعه ولو نسبياً مؤخّراً، الأمر الذي دفع كثيرين إلى المقارنة بين دياب وبين رئيس الحكومة الأسبق ​نجيب ميقاتي​ لجهة "مراعاة" الحريري وعدم إغضابه.

وإذا كان رئيس "​تيار المستقبل​" تلقّف "الرسالة" بشكلٍ أو بآخر، فحصر "هجومه" في ذكرى الرابع عشر من شباط مثلاً بـ "​التيار الوطني الحر​" دون رئيس الحكومة، فإنّ شيئاً ما طرأ خلال الأيام القليلة الماضية، ليعيد "اشتعال" الجبهة بين الرجليْن، كما كانت في اليوم الأول، منهياً بذلك كلّ ما حُكي عن "هدنةٍ" بين الطرفين، على هامش "مهلة السماح" الممنوحة للحكومة.

"أوركسترا" ضدّ البلد؟!

مفاجئاً بدا لكثيرين كلام رئيس الحكومة خلال الجلسة الأخيرة ل​مجلس الوزراء​، والذي شكّل عملياً "الخرق الأول" لما يمكن وصفه بـ"الحياد الإيجابيّ" الذي اعتمده منذ ما قبل نيل حكومته الثقة، والذي التزم به على رغم كلّ "الحملات" التي تعرّض لها من الأقربين والأبعدين منذ تكليفه، والتي وصلت في بعض الأحيان إلى حدّ التخوين.

ومع أن هذا "الخرق" كان قد سبقه كلامٌ آخر، أقلّ حدّة، تحدّث فيه عن "تراكمات ثلاثين عاماً من السياسات الخاطئة"، ما فُسّر وكأنّه انتقادٌ ضمنيٌ لـ"الحريرية السياسيّة" التي حكمت البلاد حلال العقود الثلاثة الماضية، إلا أنّ ما قاله في مستهلّ جلسة مجلس الوزراء الأخيرة لم يكن متوقّعاً، خصوصاً أنّه لم يكتفِ عبره بالغوص بين "الألغام" التي تجنّبها طويلاً، ولكن لأنّه إضافة إلى ذلك، خلع "القفّازات" التي اعتقد كثيرون أنّها ستكون "استراتيجيّته" في العمل السياسي، أقلّه في سبيل الحدّ من الخصوم.

وليس خافياً على أحد أنّ كلام دياب هذا يختصر بين طيّاته، "الدوافع" التي جعلته يصعّد الهجوم ضدّ ما وصفها بـ "الأوركسترا" التي قال إنّها تعمل ضدّ مصلحة البلد، وتحرّض على الحكومة لدى الدول الشقيقة لمنعها من مساعدة ​لبنان​، والتي كان يقصد فيها الحريري وحلفاءه بطبيعة الحال، وإن تعمّد عدم التسمية، ربما لحفظ "خط الرجعة"، ولو أنّه يعتبر أنّ الهجوم الذي تتعرّض له الحكومة من كلّ حدبٍ وصوبٍ، قبل أن تتمكّن من فعل شيء أصلاً، ليس بريئاً، ولا منطلقاً من الخشية على البلد.

ويقول العارفون إنّ دياب الذي تعاطى بـ"حسن نيّة" مع معارضي حكومته، معتقداً أنّ "مصلحة لبنان" تجمعهم، ولو اختلفت الأساليب والأدوات، بدأ في الأيام الأخيرة يشعر بخلاف ذلك، بل تولّد انطباعٌ لديه بأنّ هناك من يريد تضييق الخناق عليه وشلّ عمل حكومته، حتى لا تسجّل أيّ إنجاز، يمكن أن يُصنَّف "فشلاً" لمن سبقه في الحكم، ولو أدّى ذلك إلى انهيار البلد ككلّ، وهو ما غمز من قناته بصراحة عبر حديثه عن "تحريض الخارج" على لبنان، توازياً مع جولة الحريري الخارجية، وفي ذلك أكثر من إشارة ورسالة مثيرة للانتباه.

أين الأفعال؟!

قد تكون "صدفة" التزامن بين هجوم دياب الحادّ على خصومه، وفي مقدّمهم الحريري، وبيان كتلة "المستقبل" رفضاً لجملةٍ يتيمة قالها رئيس الحكومة الأسبوع الماضي عن "تراكمات السياسات الخاطئة"، كافية للدلالة على أنّ "خللاً" غير بسيط طرأ على العلاقة، وعلى أنّ مرحلة "​الهدنة​" بين الجانبين قد تكون ولّت إلى غير رجعة.

لكن، بالنسبة إلى تيار "المستقبل"، فإنّ رئيس الحكومة هو الذي "يفتري" على نفسه، بتبنّيه أقوال خصوم الحريري، خصوصاً لجهة تحميل "الحريرية السياسية" مسؤوليّة الوضع الذي وصلت إليه البلاد، وهو ما ينمّ عن "تحيّز" واضح، بخلاف كلّ الأقوال والوعود التي أطلقها الرجل منذ تكليفه، والتي حاول من خلالها "التمايز" عن عرّابيه، من دون أن يقرنها بأيّ أفعالٍ حتى الآن تضع معارضيه عند حدّهم، إذا صحّت روايته.

ويقول "المستقبليّون" إنّ الحرص على المصلحة العامة الذي يحاول دياب أن يعكسه للرأي العام، كان يتطلّب منه بالحدّ الأدنى مقاربة "موضوعيّة"، بعينين لا بعينٍ واحدةٍ، ليتناغم على الأقلّ مع مقاربة الناس التي عبّروا عنها في ​الحراك الشعبي​ الذي يحاول دياب "تسلّقه"، بل القول إنّه يمثّله، مع أنّ الشعار الأوحد لهذا الحراك هو "كلن يعني كلن"، بمعنى عدم تحميل فريق محدّد المسؤولية، علماً أنّ شركاء دياب في الحكومة، وتحديداً "التيار الوطني الحر"، هم أكثر من يتعرّضون لانتقادات الناس في الشارع، على الأقلّ ربطاً بملف الكهرباء التي استلم زمامه فريق "التيار" منذ أكثر من عشر سنوات.

انطلاقاً من كلّ ما سبق، يعتبر "المستقبليّون" أنّ دياب، بهجومه غير المبرَّر على الحريري وحلفائه، إنما يحاول التغطية على الأزمة الحقيقيّة التي يواجهها، والتي تتمثّل بعجزه عن تأمين "الغطاء" العربي والدولي لحكومته، خصوصاً أنّه يتحدّث منذ ما قبل نيله الثقة عن جولةٍ خارجيّةٍ سيقوم بها، وستقوده إلى ​دول الخليج​، وهو ما لا يستطيع الإيفاء به في ضوء "مقاطعته" من ممثلي هذه الدول، ولو تعمّد تسريب أجواء مناقضة لذلك في الشكل والمضمون.

وفي حين يلفتون إلى أنّ أيّ إشارةٍ إيجابيّةٍ لم تصدر حتى الآن من جانب السعوديين مثلاً إزاء الحكومة، بل إنّ السفير السعودي لم يزر السراي لتهنئة دياب، ولو من باب رفع العتب، فإنّهم يؤكدون أنّ محاولة دياب الهروب إلى الأمام، عبر تحميل خصومه مسؤولية ذلك بحديثه عن "تحريض" أو غيره، لا تمتّ إلى الواقع بصلة، ليس لأنّ الأمر مرتبط بطريقة تشكيل الحكومة فحسب، وانتظار هذه الدول ما يثبت حسن النيّة قبل الانفتاح، ولكن قبل ذلك لأنّ مثل هذه الاتهامات تشكّل إدانةً لدياب قبل غيره.

خطابٌ مكرَّر...

مجدّداً، هو الصراع على ​السلطة​ من دون أيّ تغييرٍ، ولو في الشكل، بين السلطة والمعارضة.

السلطة تتّهم المعارضة بشلّ حركتها ومنعها من العمل، فضلاً عن التحريض عليها بغية التضييق عليها، فتردّ المعارضة، باتهام السلطة بالسعي لرمي المسؤولية على غيرها، والتلكؤ والتقصير، بدل الانصراف إلى تحقيق ما وعدت به.

هو خطابٌ مكرَّرٌ يبدو أنّه مستمرٌ فصولاً، حتى في مرحلة ما بعد السابع عشر من تشرين، مرحلة اعتقد كثيرون أنّها فرضت إيقاعاً جديداً، سواء بعد "انتفاضة" اللبنانيين على واقعهم، أو بعد ظهور بوادر "الانهيار"، الذي سيصيب الجميع متى وقع، أكانوا من مركب الموالاة أو المعارضة...