تنتهي فترةُ التّهيئةِ بِذِكرى طَردِ آدمَ وحوَّاءَ مِنَ الفِردوس، لتَبدأَ رحلةُ حَجٍّ صِيَامِيَّةٌ أربَعينيَّة، وهي الفَترةُ الثّانيةُ في زَمَنِ التّريودي.

طُرِدَ الإنسانُ الأوّلُ لأنَّهُ أَدخَلَ الخَطيئةَ إلى جَوفِه، فبَاتَ غريبًا عَن مائدَةِ اللهِ المُقَدَّسة. كان عُريانًا مِنَ الرَّذائل، كما خَلَقَهُ ربُّه، طاهِرًا نَاصِعَ البَياضِ كهَذا الأَحدِالّذي نَرفعُ فيهِ البَياضَ عن مَوائِدِنا، بعدَ أن رَفَعْنا اللّحمَ الأُسبوعَ المَاضي.

كان نَقيًّا مِنَ الخَطيئَةِ لأنَّها أَصلًا دَخيلةٌ عَلَيهِ،إذ لم يَخلُقْها اللهُ لأنَّهُ يَخلُقُ كلَّ شَيءٍ حَسنٍ.

حَسَنًا كان خَلقُ الرَّجُلِ، وحسَنًا كان خَلقُ ​المرأة​. كِلاهُما مُتساوِيان في الكَرامَةِ الإلهِيَّة نفسِها. كِلاهُما خَلقَهُما اللهُ على صُورَتِهِ ومِثالِه، لَهُما مِلءُ الحُرّيةِ بِأَن يُطيعاهُ أو يَعصِياهُ، لأنَّ لا محبَّةَ بِالقُوّةِ ولا مُطاوَعَة، بَل إرادةٌ حُرَّةٌ بِالكَامِل.

الإنسانُ الأَوَّلُ أغواهُ إبلِيس. فبعدَ أن كان يَتَمتَّعُ بِكُلِّ نِعمِ اللهِ، حَصرَ نفسَهُ بِثَمرةٍ فاسِدة وهِيَ عَدَمُ الطَّاعَةِ للوَصِيَّةِ الأَبَويَّةِ الإلهِيَّةِ المَخلِّصَة، وتَبِعَ سَاقِطًا مُتكَبِّرًا فَارِغًا زاحِفًا سُفليًّا، لا يُعطي سوى الخَدِيعة، فكانَ مَصيرُهُ السُّقُوط.

ولكن بَقِيَ الإنسانُ في قَلبِ اللهِ الّذي لم يتخلَّ عنه، بل وَعَدَهُ بِأنَّهُ سَيَتجَسَّدُ ويخَلِّصُّهُ ويُعيدُ صُورَةَ اللهِ فِيهِ الّتي أَظلَمَت بِالخَطِيئة. وهذا ما حَصَل.

وكَمَا سَقَطَ الإنسانُ بِحُريَّتِهِ الكَامِلَةِ، كَذَلِكَ عَودتُهُ مُتعلِّقة بِإرادتِه. وهُنا يَأتِي الجِهادُ الحَسن. وهذا تَمامًا مَا يَدعُونا إليهِ هذا الزَّمنُ الخُشُوعيّ.

صَومٌ، وصَلَواتٌ يَومِيَّة مَسائيّة، وتَخَشُّعٌ، وأجمَلُ التَّراتيل. ولكِن هَذا كُلُّهُ لا يكتَمِلُ إلّا بالتَّوبَةِ والاعتِرافِ بِالخطأ. وقِمَّةُ هذا الأَحدِ مَا يفعَلُهُ المُؤمِنون فِي عَشيَّتِهِ بَعدَ الغُروبِ، إذ يَقِفُونَ كلٌّ تُجاهَ الآخَر، ويَستغفِرُ مِنهُ ويَغفِرُ لَه. لِهذا يُسمَّى هذا الأَحدُ أَيضًا بِأَحَدِ الغُفران.

وهُنا يَضعُ كُلٌّ مِنَّا نُصبَ عَينَيهِ مَا يَبدَأُ بِهِ إنجيلُ أَحَدِ الغُفران: "إِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلاَتِهِمْ، لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضًا زَلاَتِكُمْ"(مت١٥:٦).

أليسَ هذا مَا تَقُولُهُ الأبَانا: "وأترُكْ لَنَا ما عَلَينا كَمَا نَترُكُ نَحْنُ لِمَن لَنَا عَليه". أي نترُكُ إساءاتِ الآخَرينَ لَنا، ونتَقَدَّمُ مِنَ اللهِ غَافِرين. هذا شَرطٌ أساسيٌّ كَي تُقبَلَ صلواتُنا، فَصلاةُ الحَقُودِلا يَقبَلُها الله.

وإن شَعَرْنا أنَّ الغُفرانَ صَعبٌ جِدًّا، فلنتَذَكر حاجتَنا للغفران. فإذا أرادَ اللهُ مُحاسبَتَنا لا يخلُصُ أَحَد.

كما يَأتِي جَوابُ يسوعَ لِسُؤالِ بُطرسَ الرَّسولِ ليقول: ليس للغفران حدود."يَا رَبُّ، كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ"؟. فقَالَ لَهُ يَسُوعُ: "لاَ أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ، بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ"(مت ٢١:١٨-٢٢).

وأيضًا، ابتِدَاءً مِن هذا الأَحدِ تَحضُرُ صَلاةُ القِدِّيسِ إفرامَ السُّريانيّ مُترَافِقَةً والسَّجدات. فَهِي تُلخِّصُ مَسلكِيَّةَ حَياةٍ، وتنقَسِمُ إلى ثلاثَةِ أقسَام:

-الأوّل، إعلانُ أنَّ السيّدَ وحدَهُ سيِّدُ حياتِنا دُونَ سِواه، وتَوَسُّلٌ للتَّحرُّرِ مِنَ الأهواءِ المُعيبَة، كَرُوحِ البِطالَةِ والفُضُولِ وحُبِّ الرِّئاسةِ والكَلامِ البَطَّال.

-الثّاني، الطَّلَبُ مِنَ الرَّبِّأن يُنعِمَ عَلَينا بِرُوحِ العِفَّةِ واتِّضاعِ الفِكرِ والصَّبرِ والمَحبَّة.

-الثَّالثُ، مُخاطَبَةُ اللهِ لأنَّهُ المَلِكُ والإلهُ الوَحيد، وطَلَبُ المُساعَدَةِ منه كَي نَعرِفَ ذُنوبَنَا وألّا نَدينَ الآخَرِينَ الّذينَ هُم إخوتُنا.

فمَا نَقُولُهُ في هَذِهِ الصَّلاةِ تَنَهُّدٌ صَاعِدٌ مِنَ القَلبِ، لِنَعُودَ مِن جَديدٍ إلى بَيتِنا الأَبَوِيّ عُريانِينَ مِنَ الخَطِيئَةِ، ولابِسِينَ المَسِيح.