تأتي حرب الشمال السوري بين دمشق وأنقره تخفي خلفها دلالات، وستجرّ تداعيات سياسية واسعة أبعد من مساحة العالم العربي. تتجاوز الحكاية قضية جيش سوري يريد إستعادة أرضه في إدلب التي تحتلها مجموعات إسلامية متطرفة توظّفها ​تركيا​، بل ترسم مساراً جيوسياسياً بعيد المدى. صار واضحاً أنّ العملية السورية لضرب النفوذ التركي في إدلب تعني نسف التمدد "الإخواني" في بلاد العرب، مما يعني أن التحالف الطبيعي يقتضي أن يكون بين سوريا و​الإمارات​ ومصر و​السعودية​ ضد "العثمانيين" الجدد. لم يعد هناك من خيارات أخرى على ضفاف هذين التحالفين. مصلحة ​لبنان​ تفرض عليه أن يكون مع المحور العربي. الخطير ما حصل في درعا السورية في الساعات الماضية بعد تحرك خلايا مسلّحة نائمة تابعة للأتراك، فهل تتحرك ايضاً في لبنان إنطلاقا من الشمال؟ لا ينبغي إستبعاد هذا السيناريو الذي يهدف الى تحقيق بلبلة مُضافة ودغدغة عواطف إسلامية محدودة.

بجميع الأحوال، تفيد المعطيات أن "النتعة" التركية العسكريّة في إدلب جاءت هستيريّة بسبب تقدم ​الجيش السوري​ على مساحة ثلاثة آلاف كلم في الايام الماضية. يعتبر اردوغان أن دمشق أخلّت بالإتفاق الذي تعهد به الروس والإيرانيون لإبقاء منطقة حدوديّة تحتوي ​النازحين السوريين​ الذين يسببون لحزب "العدالة والتنمية" إحراجاً سيُترجم في صناديق الإقتراع في الانتخابات التركية ضد سياسات الرئيس التركي ​رجب طيب أردوغان​.

كان يريد الأتراك أيضاً أن ينسف السوريون مشروع الكرد، لأن بقاء الأميركيين في شرق سوريا وإستمرار دعمهم لقوات "سوريا الديمقراطية" وعدم تقدّم الجيش السوري بإتجاه الكرد، وبقاء عين العرب(كوباني) تحت السيطرة الكردية، هو من الأسباب الأساسية التي أدّت إلى تلك الهستيريا التركية.

تفيد المعلومات ايضاً أن التباين حصل بين موسكو وانقره بشأن تفسير إتفاق سوتشي، لعدة أسباب: ​روسيا​ تطالب بحقها مع السوريين بالهجوم على المجموعات الإرهابية، بينما تريد أنقرة أن تتعامل وفق رؤيتها مع هذا الملف على أساس تثبيت النازحين السوريين قبل أي إعتبار.

موسكو تطلب سيطرة سوريا على طرقات رئيسية بإتجاه حلب واللاذقية، الأمر الذي ترفضه انقره الآن وتعتبره سابقاً لأوانه قبل بت النقطة السابقة.

موسكو تريد الدوريات العسكرية مشتركة، وأنقرة تطالب بأن تكون مستقلّة على المجنبات.

موسكو تريد ​سراقب​ تحت سيطرة الجيش السوري، وأنقرة تريدها سيطرة روسية-تركية، علما ان الجيش السوري دخل إليها في الساعات الماضية.

حصل إتفاق على مبدأ نقاط المراقبة، لكن الخلاف هو حول حجم الوجود العسكري شمالاً.

تطلب انقره حظراً جوياً وترفض موسكو الأمر.

كل ذلك يعني ان الروس هم في صلب المعركة الى جانب سوريا، واذا كانوا لم يستخدموا طائراتهم، فهم إستعملوا صواريخ كاليبر من البوارج البحرية، وهو سيكون محور بحث الرئيسين التركي والروسي الخميس المقبل. بينما كان الإيرانيون يديرون تقنية إسقاط طائرات الإستطلاع التركية فوق إدلب. لكن الروس والإيرانيين لا يسعون لأي مواجهة مع الأتراك عسكرياً وجهاً لوجه، لإعتبارات تتجاوز حسابات سوريا، فهم يريدون إستيعاب انقره ضمن صفوفهم.

لا تريد طهران ان تخسر حلفها مع أردوغان لأن حلفاءها قلّة، بعد أن تكاملت الأدوار المشتركة بين الاتراك والإيرانيين في الإقليم ضد محاور أخرى، كالسعودية مثلا. كما ان ​ايران​ تدرك ان علاقة الأتراك مع باكستان وأفغانستان اساسية بعد زيارة اردوغان الأخيرة. فإذا فقد الإيرانيون التحالف الضمني مع تركيا، فلم يبق لهم سنداً إقليمياً آخر، خصوصاً ان الاتفاق الذي جاء بين الأميركيين وحركة "طالبان" تسعى واشنطن لتوظيفه و تحشيد جبهات إضافية ضد إيران بعد عزلها.

على هذا الاساس، تبدو مصلحة سوريا في إكمال الطريق نحو تحرير إدلب، وترسيخ التعاون مع المحور العربي لمنع تمدد الأتراك. فهل تقدّم الدول العربية مساعدات عسكرية ومالية لسوريا التي تخوض حرباً عن كل العرب ضد الأطماع التركية؟.

تستطيع كل من ايران وروسيا البقاء في مساحة وسطية نسبية، من دون التراجع عن دعم سوريا ولا الطلاق مع تركيا. الأيام المقبلة تحمل مؤشرات مهمة على صعيد جيوسياسي. فلننتظر.