خلافًا لما هو شائعٌ في الأدبيّات المسيحيّة، لم يُنشأ ​لبنان​ُ الكبيرُ ليحتَضنَ المسيحيّين، بل المسلمين خصوصًا. فالمسيحيّون كانت لهم دولةٌ في نطاقِ نظامِ المتصرفيّة. كان يَكفيهم أن يُـلَــبْنِنوا هويّةَ المتصرّفِ المسيحيّ، وهو أمرٌ كان مضمونًا لدى الفرنسيّين من جهة، ولدى فيصل بن الشريف الحسين ملك ​سوريا​ من جهةٍ أخرى. لكنَّ البطريركيّةَ المارونيّةَ اختارت حدودَ لبنان التاريخيَّةَ مساحةً ومدى، والتعايشَ المسيحيَّ/​الإسلام​يَّ تجربةً ورسالةً، والديمقراطيّةَ الليبراليّةَ نظامًا سياسيًّا واقتصاديًّا. وبذلك بَرز المكوّنُ المسلمُ، لاسيّما السنيُّ منه، المكوّنَ الأساسيَّ الجديدَ في الكيانِ اللبنانيِّ المستَعاد.

لكن سَرْعان ما تحوّل مُعضلةً هذا الإنجازُ التاريخيُّ. وَقَع في التجاربِ وهو صِيغَ ليكونَ تجربة. راحَت كلُّ جماعةٍ تَتكبُّر على الكيانِ الجديد، تَتردّدُ في الانتماءِ إليه، وتُـرَبِّـحُه جميلَ الاعترافِ به. تَبرّمَت منه و تَفَذلَكت عليه: لماذا هو كبيرٌ وديمقراطيٌّ وميثاقيٌّ وحضاريّ؟ لماذا "وَرَّطَ" المسيحيَّ بالمسلمِ والعكس؟ لماذا هو مختلِفٌ عن محيطِه؟ أَعطينا الانطباعَ بأنّنا مواطنون بالإكراه، نَنتظر إخلاءَ سبيلِنا، ومُذنِبون في حبِّنا لبنان. المشاعرُ الإيجابيّةُ التي توالت تِباعًا تجاه "الوطن النهائي" لا تزال غيرَ كافيةٍ لتَضمَنَ بقاءَ وِحدتِه المركزيّةِ، فاعترافُنا بنهائيّةِ الوطن لم يرافِقْه اعترافٌ بنهائيّةِ ​الدولة​، إذ تَخطَّت أطماعُنا دستورَ الدولةِ ونظامَها وميثاقَها. وحين يُصبح الصراعُ في الكيانِ بين الوطنِ والدولةِ يَنزِفُ الكِيان.

لدي شعورٌ أنّنا نَنتقِم من هذا اللبنان: المسيحيُّ لأنّه خَسِرَ فيه التفوّقَ العدديَّ والدورَ الأساسيّ. السُنيُّ لأنّه لم يَبسُطْ عروبَته على رَحابتِها. الشيعيُّ لأنّه صُنِّفَ المسلمَ الثاني في الصيغةِ الميثاقيّة، والدُرزيُّ لأنّه فَقدَ في الجمهوريّةِ جُزءًا من دورٍ كان له في الإمارة. بالمقابل، لم تنشأ وطنيّةٌ مدنيّةٌ خارجَ الانتماءِ ​الطائف​ي مُحرَّرةٌ من تلك المعايير. هذه الرغبةُ بالانتقامِ ارتَدّت علينا جميعًا فَبَدَوْنا كأنّنا حَصلنا على وطنٍ من دون وِحدتِه، وعلى دولةٍ واحدةٍ من دونِ مجتمعٍ واحد. انبثَق لبنانُ الكبير ليَجعلَنا شعبَ الأملِ والرجاءِ والريادةِ في الشرق، فجعلنا ذواتَنا جماعاتٍ تَتداول الإحباطَ والغبنَ والقهرَ والهيمنةَ والحِرمان. دعانا لبنانُ لنَدفنَ تحت ترابِه عقائدَنا القديمةَ ففَجَّرناها صراعاتٍ ودفنّا أنفسَنا. حَرّرَنا من منطقِ الأكثريّةِ والأقلّيات فغَطَسنا فيها حيارى.

لا أؤمنُ بمشروعِ الأكثريّةِ العربيّةِ ولا بمشروعِ الأقلّياتِ الإقليميّة. نحن الأكثريّةُ بعقلِنا والأقليّةُ بعددِنا. نحنُ صَفْوةُ الإثنين. نحن التمايُزُ في الرتابة. نحن شعبٌ قائمٌ بذاتِه منذ ستّةِ آلافِ سنةٍ قبلَ اليهوديّةِ والمسيحيّةِ والإسلام.

المسيحُ زارنا في صيدا وصور والتقى الـمَرأةَ الفينيقيّةَ ووَجدَ إيمانَها عظيمًا. نحن لا نَنتمي إلى أحد، الآخَرون إلينا يَنتَمون. يكفي استيرادُ هويّاتٍ قوميّةٍ ودينيّة. يكفي الانتماءُ إلى الأموات.

منذ ​الاستقلال​، والمؤمنون بلبنانَ يَجهَدون لإعطاءِ صورةٍ رسوليّةٍ عن بلدهم. سوّقوا الصيغةَ اللبنانيّةَ في الشرقِ والغربِ نموذجَ تعايشٍ بين الأديانِ والثقافات. كان المسيحيّون سعداءَ بهذا الوطن وفخورين بحياتِـهم مع المسلمين. كان فخرُهم في محلِّه، فليس أمرًا عاديًّا أن يَتحقّقَ لبنانُ الكبير مستقِلًّا بعد الفتوحاتِ الإسلاميّةِ والاقتتالِ الدُرزيِّ/المسيحيِّ ونظامِ القائمقاميّتين، وبعد الصراعِ الأوروبيِّ/العُثمانيِّ ونظامِ المتصرفيّة، وبعدَ الحربِ العالميّةِ الأولى والمشاريعِ القوميّةِ.

لقد انتزع اللبنانيّون وطنَهم من أحشاءِ اتفاقِ سايكس/بيكو واسْتَبقوا قيامَ الوِحدةِ مع سوريا ونشوءَ دولةِ ​إسرائيل​؛ وإلّا لأَمْسى البقاعُ الغربيُّ والجَنوبُ في ​فلسطين​ فإسرائيل، والبقاعُ الشماليُّ و​طرابلس​ وعكار في دولةِ سوريا. من هنا أنَّ الموارنةَ لم يؤسِّسوا وطنًا لمصلحتِهم فقط، بل لمصلحةِ جميعِ الطوائفِ فأنْقذوها من الذوبانِ بين إسرائيل وسوريا. هذا الإنجازُ بحدِّ ذاتِه يَستحقُّ مكافأةً، أو على الأقل عِرفانًا.

لكن، فيما كان المؤمنون بلبنان يَتباهَون بالصيغةِ اللبنانيّةِ، كانت فئاتٌ لبنانيٌّة متنوِّعةُ الانتماءاتِ الطائفيّةِ تُسوّقُ مشاريعَ كِياناتٍ أخرى على خلفيّةٍ عقائديّةٍ أو دينيّةٍ. ولأنَّ تلك المشاريعَ سقطت من دون فضلِ اللبنانيّين، ارتَدَّت هذه الفئاتُ على الدولةِ القائمةِ تَبحثُ عن مساحةٍ بديلةٍ في السلطةِ اللبنانيّة كأنَّ السلطةَ تُعوِّضُ عن العقيدة. أدّى هذا السلوكُ إلى اهتزازِ الثقةِ بين المكوّنات وإلى بَدءِ التنقيبِ عن بدائلَ دستوريّة، خصوصًا أنه كَلّفنا حروبًا ودماءً حتى بَلغنا الانهيارَ الحالي.

المؤثِّرُ هنا أنَّ اهتزازَ الثقةِ لم يقضِ على إرادةِ الحياةِ معًا. إن حربًا واحدةً بنوعيّةِ تلك التي مرّت على لبنان كانت كافيةً لتقسيمِ أيِّ بلدٍ آخر. إلا أنَّ اللبنانيّين تخطّوا مآسيهم وتجاهلوا عِبَرَ التاريخِ وظلّوا معًا رغمَ جميعِ الحروبِ والمجازرِ والخياناتِ المتبادَلة. نزعةُ التقسيمِ بَقيت نَزَقَ لحظةِ غَضب، كإطلاق النارِ من مُسدّسٍ فارغ. دَفنوها مع شهدائِهم وأحبّائِهم ورَكَدَت في الذِكريات، والذكرياتُ صدى الأوجاعِ والأحزان. إنَّ اتِّباعَ الهوى والاستهتارَ واللامبالاةَ والإهمالَ، وهي شوائبُ في المطلَق، تُشكّلُ قوّةَ اللبنانيّين. لربما كان تَغافلُ اللبنانيّين عن دروسِ التاريخِ هو سِرُّ طولِ عمرِ وِحدتِهم على عِلّاتِـها.

لو أعطي كلُّ مكوّنٍ لبنانيٍّ حقَّ تقريرِ المصير، أَيَضمَنُ أنَّ خِيارَه الجديدَ يَحمل إليه الأمنَ والحريّةَ و​السلام​ في بيئتِه الداخليّةِ ومحيطِه الخارجيّ؟ هل يُنهي التقسيمُ انحدارَ المسيحيّين وانقساماتِهم القاتلة؟ هل يؤمِّنُ دستورُ "الطائف" صمودَ السُنّةِ بوجِه التمدّدِ الشيعيِّ؟ هل تَسمح هيمنةُ ​حزب الله​ أن يَتنزّهَ السيّدُ ​حسن نصرالله​ حرًّا في شوارعِ الضاحيةِ وقُرى ​الجنوب​؟ وهل يوفِّرُ اخْتلاءُ الدروزِ في الشوفَين الطمأنينةَ والدورَ المفقود؟ أكثرُ من ذلك: هل هذه الخِياراتُ الافتراضيّةُ تَمنعُ التدخّلَ الخارجيَّ في شؤونِ اللبنانيّين ونشوبَ حروبٍ أهليّة؟ وهل تكون هذه الحالاتُ الجديدةُ قادرةً على تأمينِ بقائِها من دون معاهداتٍ خارجيّة؟

عوضَ أن نَضيعَ في الخِيارات القصوى، وهي قاتلةٌ، حبّذا لو نَسلُك دربَ الخِيارات الواقعيّة. لقد صار واضحًا أنَّ هناك مُستحيلَين بعدَ اليوم: الوِحدةُ المركزية لأنّنا خُنّاها، والتقسيمُ لأنّنا نرفُضه. لكنَّ بينهُما نماذجَ دستوريّةً مفتوحةً

وناجحةً تَبدأ باللامركزيّةِ، تَـمّرُ بالمناطقيّة وتَبلُغ الفدراليّة. الحلُّ الأفضل هو ذاك الذي يَـتّفقُ عليه اللبنانيّون من دون نِفاقٍ وخِداعٍ وغُشٍّ. فلا نَقبَلُ اليومَ ما نَتحَضّرُ للانقِضاضِ عليه غدًا. سَبَق أن حَصلَ ذلك. إذا كان "المؤُمِنُ لا يُلدَغُ من جُحْرٍ مرّتين"، فما بالُنا وقد لُدِغْنا مئةَ مرّة؟