فعلها رئيس ​الحكومة​ حسّان دياب، وأعلن تخلّف الحكومة عن دفع سندات "اليوروبوند" المستحقّة، في ما وُصِفت بـ"السابقة" في تاريخ ​لبنان​ الحديث، ربطاً ب​الأزمة​ النقدية والاقتصادية التي يواجهها لبنان، والتي لم يرَ نظيراً لها حتى في عزّ ​الحرب اللبنانية​.

وفي وقتٍ تتّجه كلّ الأنظار إلى ما سيلي الإعلان من خططٍ وإصلاحاتٍ لا بدّ منها لتفادي "الكارثة"، فإنّ خطاب دياب للمناسبة، والذي اعتُبِر "تاريخياً" بكلّ الموازين، خطف الأضواء، في ظلّ التفاوت في قراءته ومقاربته من قبل مختلف الأطراف، في الموالاة والمعارضة.

ومع أنّ دياب دعا إلى "الوحدة" للمواجهة، فإنّ "الانقسام" كان سيّد الموقف، بين موالاةٍ اختارت أن تصوّب على خصومها عبر تصوير خطاب دياب "انتصاراً"، وتوظيفه للتصويب على الخصوم في المعارضة، ومن خلالهما على السياسات "الحريريّة"، ومعارضةٍ لم تجد حَرَجاً في انتقاد دياب، بسبب أسلوبه "الإنشائيّ" قبل أيّ شيءٍ آخر!.

"معارضة من أجل المعارضة"؟!

على أهمية خطاب دياب، وما حمله من دلالاتٍ غير مسبوقة، وما يمكن أن يفرزه من تداعياتٍ لن توفّر أخضراً ولا يابساً، بدا مثيراً للانتباه أن تشكّل "​اللغة​ الإنشائية" التي اعتمدها في الخطاب، الذي لم يخلُ من الصور البيانيّة، معطوفةً على اللهجة والإلقاء، البند الرقم واحد في "أطروحات" نقد الخطاب، ما دفع كثيرين إلى القول إنّ البعض بات يعتمد نهج "المعارضة من أجل المعارضة"، في سبيل التصويب على دياب.

وإذا كان هؤلاء ينطلقون من أنّ هذه "المعارضة" باتت تندرج في خانة "التنقير" لا أكثر ولا أقلّ، وبالتالي فإنّ صفتي "البنّاءة" و"الإيجابية" لم تعد تنطبق عليها، وإن أصرّت على خلاف ذلك، خصوصاً أنّ معظم من ارتأوا "تحريك" الشارع ضدّ دياب على امتداد الأسبوع الماضي واضحون في انتمائهم السياسيّ، فإنّ ذلك لا يلغي بطبيعة الحال حقيقة وجود بعض "المآخذ" على خطاب دياب، على أكثر من مستوى.

وفي هذا السياق، يتوقّف البعض عند خلوّ الخطاب "التاريخيّ" لدياب من أيّ إشارةٍ واضحةٍ لخطّة الإنقاذ الإصلاحيّة، في مقابل إغداق الإشارات حول الحرص على المواطنين وودائعهم وحاجاتهم، ولو برّر المحسوبون على رئيس الحكومة الأمر بالقول إنّ هذه الخطّة ستُعلَن في القادم من الأيام، ما أثار أيضاً الكثير من علامات الاستفهام عن "مغزى" تأخيرها، خصوصاً أنّ كلّ المعطيات تشير إلى أنّ مثل هذه الخطة، ستتضمّن إجراءاتٍ "موجعة وقاسية" قد تكون مناقضة في مكانٍ ما لـ "وعود" الرجل.

وإذا كان البعض سجّل على دياب أنّ خطابه جاء بمثابة "بيان وزاريّ ثانٍ" قبل تطبيق البيان الأول، نظراً لاعتماده بالكامل على عباراتٍ من حقل "سوف" الرامزة للمستقبل، بعيداً عن أيّ إنجازاتٍ تحقّقت على الأرض لغاية تاريخه، فإنّ هناك من وجد في حديثه "الشاعريّ" أيضاً عن الوحدة والانقسام أمراً مناقضاً للمسار الذي اعتمده لنفسه في الأيام الأخيرة، فهو الذي عمّق مثل هذا الانقسام، وحوّل الخصومات مع البعض إلى شخصيّة، بحديثه المتكرّر عن "أوركسترا" قصد بها فريقاً سياسياً محدّداً، يريده اليوم أن يكون "شريكاً" في خطة الحكومة، من دون أن يقدّم له أيّ "مقوّمات" لذلك.

... وفي الاتجاه المعاكس!

ولعلّ ما يجدر التوقف عنده هو أنّ دعوة دياب إلى "الوحدة" لم يترجمها مؤيّدو الأحزاب الداعمة له، الذين ارتأى الكثيرون منهم تحويل "مديحهم" للخطاب، إلى ما يشبه "الذمّ" بالآخرين، وخصوصاً من الشركاء السابقين الذين انتقلوا إلى صفوف المعارضة، الأمر الذي إن دلّ على شيء فعلى تعميق "الانقسام"، قبل أيّ شيءٍ آخر.

وفي هذا السياق، كان لافتاً أن يتبنّى المؤيدون "المبالغة" نفسها التي اعتمدتها المعارضة، ولكن في الاتجاه المعاكس، كأن يصنّف بعضهم خطاب دياب على أنّه الأفضل لرئيس حكومةٍ لبنانيّ منذ ​الطائف​، أو أن يعتبر البعض الآخر أنّه جاء ليدفن نهج "الحريريّة السياسيّة" الذي أوصل البلاد إلى ما وصلت إليه، الأمر الذي لا يمكن إدراجه إلا في خانة "التنقير" أيضاً وأيضاً.

ومع أنّ هؤلاء المنتقدين كانوا، على امتداد الحكومات المتعاقبة منذ سنواتٍ، شركاء لهذه "الحريريّة" في صنع القرار، ما يحرمهم تلقائياً ومنطقياً من "متعة" تحميل خصومهم كامل المسؤوليّة، إلا أنّ ما يدفعهم إلى مثل هذا السلوك "الدفاعيّ" بنظر البعض، ينطلق من "تنصّل" هذا الجزء المحدّد في المعارضة من المسؤوليّة، وكأنّ لا ناقة لهم ولا جمل في "الانهيار" الذي لم تكن البلاد لتصل إليه لولا السياسات الاقتصادية التي كانوا وراءها، أو لو أنّهم تمتّعوا بـ "جرأة" اتخاذ بعض القرارات "الشجاعة" في الوقت المناسب، أو بالحدّ الأدنى لو أنّهم تحلّوا بـ "الواقعية" في استشراف الآتي، كما فعلت الحكومة الحالية، على رغم اختلاف الظروف والحيثيّات.

ويبقى الأهمّ من كلّ ما سبق، برأي داعمي دياب، أنّ حكومته لم تستنفد بعد "مهلة السماح" التي طلبها قبيل نيله الثقة، علماً أنّ البعض يطالب هذه الحكومة بإنجازاتٍ وهي لم تكمل شهرها الأول بعد الثقة، في حين أنّه بقي في الحكم سنواتٍ طويلة من دون تقديم أيّ "نموذجٍ" يمكن أن يُحتذى أصلاً. أما "الثغرة" الأكبر في الخطاب المُعارِض، برأي هؤلاء، فتكمن في كونه اقتصر على "التباكي" على ما اعتُبِر "إعلان إفلاس"، أو انضمام لبنان إلى نادي "الدول المتعثّرة"، في وقتٍ يفترض أن يكون للقوى المعارضة دورٌ أساسيّ في التصدّي، ليس فقط لكون المسؤولية تاريخية وبالتالي جماعية ومشتركة، ولكن لأنّ الإفلاس أو التعثّر، إن حصل، فسيصيب الجميع، ولن يُسجَّل ضدّ فريقٍ أو حكومةٍ بحدّ ذاتها.

هنا بيت القصيد!

تنتقد المعارضة رئيس الحكومة، لأنّ خطابه "التاريخيّ" أتى عاطفياً ووجدانياً، بحيث يلعب على مشاعر المواطنين، من دون أن يحمل بموازاة ذلك أيّ إعلانٍ واضحٍ وصريحٍ عمّا يمكن أن يلي إعلان التخلّف عن دفع الديون المستحقّة، خصوصاً على مستوى خطة الإصلاح الموعودة، والتي بقيت من "الأسرار القوميّة" حتى إشعارٍ آخر.

في المقابل، تنتقد الموالاة المعارضة على أنّ خطابها لم يرتقِ لمستوى المأزق الذي يواجه الوطن، والذي يفترض من مكوّناتها التحلّي بالمسؤولية، وبالتالي القفز فوق الخصومات الشخصية، والاعتبارات السياسية، والحسابات الشعبوية، وغيرها، وهو ما لم تعكسه الانتقادات، والتي تركّزت على "الشكل" أكثر من "المضمون".

وبين هذا وذاك، تفوّقت "المبالغة" على ما عداها، مع أنّ القاصي والداني يعلمان أنّ القرار الذي أعلنه دياب، على تاريخيّته وحساسيته، لم يكن مفاجئاً، بل أتى واقعياً، في سياق الأحداث التي شهدها البلد منذ تشرين الأول الماضي، وأنّ الأهمّ منه يبقى في كيفية "تلقّفه" من الجميع، وهنا فقط يكمن "بيت القصيد"...