لا حديث يعلو هذه الأيام على حديث "​كورونا​"، هذا الفيروس المستجدّ الذي اجتاح ​العالم​ بأسره من دون تمييزٍ بين المَحاوِر والأقطاب، بل أربك حكوماتٍ ودُولاً لطالما وُصِفت بالكبرى والعظمى، إلا أنّها وجدت نفسها عاجزة عن مواجهة سرعته القياسيّة وغير المحسوبة في الانتشار والتمدّد.

ولأنّ ​لبنان​ جزءٌ من هذا العالم، كان من الطبيعيّ أن يصله الداء، من دون اعتبارٍ لـ "خصوصيّته" الافتراضيّة، وهو المنقسم مناطقياً ومذهبياً وطائفياً، ولا لكمّ الأزمات الكبرى التي يعيش على وقعها أصلاً، من فساد طبقته الحاكمة، إلى الانهيار الاقتصاديّ والاجتماعيّ الذي يكاد يطيح بتركيبته عن بكرة أبيه.

وإذا كانت كلّ هذه الأزمات، على خطورتها وحساسيّتها، أصبحت "هامشيّة" نسبياً، بالمقارنة مع "كورونا"، فإنّ المفارقة المثيرة للجدل تكمن في "الفرادة" اللبنانية التي أصرّت على ضمّ الفيروس إلى "طبق" المشاحنات السياسيّة، وكأنّ اللبنانيين لا يجدون ما ينقسمون عليه، حتى يلجأوا إلى "تسييس" صحتهم بالدرجة الأولى!.

"فرادة" لبنانيّة؟!

قد لا يكون مُبالَغاً به القول إنّ ما يشهده لبنان من مدّ وجزرٍ على خطّ مواجهة أزمة "كورونا" لم تشهده أيّ دولةٍ في العالم، بما فيها تلك الدول التي تخطّت "الفاتورة" التي دفعتها بسبب "خبث" الفيروس الغامض، قدرة مواطنيها على التحمّل، بعدما "تسلّل" بينهم بشكلٍ مباغتٍ، الأمر الذي لا يبدو أنّه ينطبق على الحالة اللبنانية، أقلّه حتى الآن.

ففي حين اتّحدت هذه الدول في المواجهة، وفق قاعدة "التضامن الوطنيّ" الذي لا بدّ منه لتجاوز اختباراتٍ "ثقيلةٍ" من هذا النوع، تصرّف ​اللبنانيون​ كأنّهم وجدوا مادة "تجاذب" جديدة من شأنها "تغذية" انقساماتهم، بين معارضةٍ رأت في الأمر "فرصة ذهبيّة" قد يسهل معها توجيه "ضربة قاضية" للحكومة، وموالاةٍ بالغت في "الإشادة" بنفسها في مواجهة من وصفها رئيسها حسّان دياب بـ "الأوركسترا"، لدرجة الوقوع بفخّ "النكران".

وإذا كان دياب يعتبر أنّ الإجراءات التي اتخذتها حكومته أضحت "نموذجاً لبعض الدول الأوروبية والعالم" في مواجهة "كورونا"، كما قال في الجلسة الأخيرة ل​مجلس الوزراء​، فإنّ هذه ​الحكومة​ تتحمّل، برأي كثيرين، مسؤوليّةً لا يمكن "الاستخفاف" بها في "تسييس" المرض، وبالتالي السماح بانتشاره، بعدما "كابرت" في رفض وقف الرحلات إلى الدول "الموبوءة" حتى اللحظة الأخيرة، خشية أن تُحسَب مثل هذه الخطة ضدّ مِحورٍ سياسيّ مُحدَّد، علماً أنّ مثل هذه الخطوة كان من شأنها أن "تحصر" المرض في مكانٍ ما، وإن لم يكن ذلك مضموناً، باعتبار أنّ دولاً تفوق لبنان في القدرات، لم تستطع أن تمنع وصوله إليها، وتالياً انتشاره فيها.

لكن، أبعد من الاعتراف بارتكاب الحكومة أخطاءً أو حتى خطايا في مواجهة الفيروس، فإنّ الأكيد أنّ المعارضة، بمختلف فروعها ومكوّناتها، لم تقدّم نموذجاً أفضل بكثير، في ضوء أداءٍ لا يدفع فقط إلى إثارة "هلعٍ" لا ينسجم مع مقتضيات المواجهة فحسب، بل يذهب إلى حدّ تحميل الحكومة، ووزير الصحّة بالتحديد، مسؤوليّةً مبالَغاً بها في كلّ ما يحصل، وحتى في حدوث وفيّاتٍ ناجمةٍ عن المرض، وكأنّ مثل هذه الوفيّات لم تحدث إلا في لبنان، ما دفع البعض إلى التساؤل عمّا إذا كان هذا البعض لن يتوانى عن تحميل الحكومة مسؤولية انتشار المرض في العالم بأسره.

حالة طوارئ؟!

باختصار، هي "الفرادة" اللبنانية التي لا تتردّد في "تسييس" كلّ شيء، وكأنّ "الانقسامات" تنقص هذا البلد، الذي يكفيه ما يعانيه أصلاً من أزماتٍ ولّدتها "الاختلافات"، التي حوّلها اللبنانيون أنفسهم إلى "نقمة" بعدما كانوا يتغنّون بها باعتبارها "نعمة".

ولعلّ ​النقاش​ حول "​حالة الطوارئ​" الذي انتشر في ​الساعات​ الأخيرة كالنار في الهشيم، يشكّل نموذجاً آخر لهذه "الفرادة"، بين فريقٍ محسوبٍ على الحكومة يعتبر أنّ ما تمّ إعلانه أصلاً يرتقي لمستوى "الطوارئ"، ولكن بنكهةٍ مدنيّةٍ صحّية لا أمنيّة، في مقابل فريقٍ آخر يرى عدم الإقدام على إعلان "الطوارئ" بشكلٍ رسميّ، "جريمةٌ لا تغتفر".

وإذا كان لكلّ من وجهتي النظر "منطقها" الخاص، الذي يجعلها "واقعيّة" في مكانٍ ما، ثمّة من يلفت إلى أنّ "حالة الطوارئ" هي أبعد من مفهوم حظر التجوّل، الذي يحاول البعض حصره بها، فضلاً عن وجود رأي "وازن" يميل إلى اعتبار أنّ الظروف الموضوعيّة الحاليّة لا يمكن أن تدفع إلى "شلّ" البلد حتى أجلٍ غير مسمّى، بل يفترض أن تقود إلى تسيير الأمور، ولو بالحدّ الأدنى، كما هو حاصلٌ حالياً، علماّ أن كثيرين من اللبنانيين، خصوصاً ممّن يعتاشون من "قوت يومهم"، لا يستطيعون "الصمود"، وهم يلازمون منازلهم لفتراتٍ مفتوحةٍ.

في مُطلَق الأحوال، وبعيداً عن الدخول في جَدَلٍ قد لا يُحسَم بسهولة، فإنّ المسؤوليّة التي يفترض أن يتحلى بها الجميع لتجاوز محنة "كورونا"، ومنع تمدّدها وانتشارها، وصولاً إلى تطبيق السيناريو الصينيّ أو الإيطاليّ أو الإيرانيّ، وربما ما هو أخطر، في ظلّ ضعف القدرات اللوجستيّة في لبنان كما هو معروف، تبقى مسؤولية جماعيّة يجب أن يتحلى بها الجميع. وتتطلب هذه المسؤولية القفز فوق كلّ الانقسامات، وحتى فوق "الخطايا" التي يعتقد البعض أنّها قد ارتُكِبت، لأنّ الأهمّ يبقى في ما سيأتي، وهذه المسؤولية تنطبق على "النخب" في الموالاة والمعارضة، ولكنّها تنطبق أيضاً على اللبنانيين عموماً، الذين ينبغي عليهم مقاربة المرحلة بمسؤوليةٍ مجتمعيّةٍ تفرض عليهم اتخاذ إجراءات ​الوقاية​ وتقليل تنقلاتهم إلى الحدّ الأدنى، قدر الإمكان، من دون الوقوع في الوقت نفسه في فخّ "الهستيريا" المنتشرة.

"الهلع" ليس الحلّ!

لا شكّ أنّ "تسييس" صحّة اللبنانيين جرمٌ لا يمكن أن يُغتفَر، وهو جرمٌ يتقاسم الجميع مسؤوليّته، فمواجهة "كورونا" لا تكون بتبادل الاتهامات، ولا بتقاذف كرة المسؤولية، على الأقلّ في هذه المرحلة، على أمل النجاح في "احتواء" المرض، وعدم انتشاره وتمدّده أكثر.

وأبعد من "التسييس"، قد يكون تعميم "الهلع" و"السلبيّة" بالشكل الهستيريّ الحاصل خطأ آخر لا يقلّ وطأة، وإن كان مبرَّراً واقعياً لجهة ضعف الإمكانات اللبنانية المعروفة، وعدم القدرة على تلبية الحاجات، في حال تضاعف أعداد المرضى بشكلٍ كبير.

المطلوب أن يتحلّى جميع اللبنانيين بمسؤوليّاتهم في المواجهة، ولا سيما عبر اتباع إجراءات الوقاية، وعدم الاستسهال باعتمادها، والمطلوب أيضاً توفير "المقوّمات" البديهية لذلك من جانب ​السلطة​ السياسية، ولكن بموازاة ذلك، قد يكون مفيداً تأكيد أنّ "الهلع الهستيريّ" لا يفيد، بل إنّه يضرّ عبر إضعافه "المناعة"، وهي السبيل الوحيد للمواجهة حتى إشعارٍ آخر...