لماذا حَدَّدَتِ الكَنيسةُ أن يَكُونَ الأَحَدُ الثَّاني مِنَ الصَّومِ الأَربَعينيّ المُقَدَّسِ مُخَصَّصًا لِقِدِّيسٍ كَبيرٍ يُدعَى غريغوريوس بَالاماس؟ مَن هُوَ هذا الأَبُ القِدِّيس؟ ومَا هُوَ دَورُ الآبَاءِ القِدِّيسِينَ فِي الكَنيسَةِ وفِي حَياةِ المُؤمِنِينَ وخَلاصِهِم؟.

كان القِدِّيسُ غريغوريوس (١٢٩٦-١٣٥٩م) راهبًا في حَدِيقَةِ وَالِدَةِ الإلهِ أي جَبَلِ آثُوس.

تَعلَّمَ هُناكَ الصَّلاةَ القَلبِيَّة، بِحَيثُ يَقُومُ المُصَلِّي بِتِلاوَةِ صَلاةِ الرَّبِّ يَسوعَ، حَامِلًا بِيَدِهِ مِسبَحَةً سَودَاءَ مَنسُوجَةً مِن خِيطانٍ مِنَ الصُّوفِ، ويُرَدِّدُ بِتَخَشُّعٍ وانسِحاقِ "يا رَبِّي يَسوعُ المَسيحُ ارحَمْني أنا الخَاطئ"، لِتُصبِحَ هَذِهِ الكَلِمَاتُ سَارِيَةً باستِمرَارٍ في دَاخِلِهِ كَنَبَضَاتِ قَلبِه.

ومَن يُمارِسُها ويُثَابِرُ علَيها، تُرافِقُهُ في كُلِّ لَحَظاتِ حَياتِهِ حَتَّى أثنَاءَ نَومِهِ، فَيَنطَبِقُ عَلَيهِ قَولُ العُشَّاقِ لِمَعشُوقِهِم: "أَنَا نَائِمَةٌ وَقَلْبِي مُسْتَيْقِظٌ. صَوْتُ حَبِيبِي قَارِعًا: "اِفْتَحِي لِي يَا أُخْتِي، يَا حَبِيبَتِي، يَا حَمَامَتِي، يَا كَامِلَتِي!" (نشيد الأنشاد ٢:٥).

تَدخُلُ هَذِهِ الصَّلاةُ ضِمنَ الحَياةِ الهُدُوئيَّةِ الّتي تَجعَلُ الإنسانَ مِنَ الدَّاخِلِ واحِدًا، قَلبًا وعَقْلًا فَيستَنِيرُ ذِهنُه، بَعدَ أن يَتنَقَّى المَرءُ مِن أهوائِهِ فيَتَّحِدَ بِالنُّورِ الإلهِيِّ غيرِ المَخلُوقِ المُنحَدِرِ نَحوَهُ مِنَ العُلى وَيَتألَّه.

مَعَ دُخُولِ الأترَاكِ الجَبلَ المُقَدَّسَ اضطُّرَّ غريغوريوس أن يُغَادِرَهُ لِفَترةٍ، رُسِمَ في خِلالِها كاهِنًا في تسَالُونِيكي. وبَعدَ عَودَتِه أُجبِرَ على مُغادَرَتِهِ ثَانيَةً، نزولاً عندَ طَلَبِ الكَنيسَةِ، لِيُدافِعَ عَنِ الهُدُوئيَّةِ في وَجهِ رَاهِبٍ يُدعَى برلعام، قَدِمَ مِن كَالابرِيا في ​إيطاليا​.

كان بَرلَعامُ يَنشُرُ بِقُوَّةٍ بَينَ المُؤمِنِينَ الأُرثُوذكسِ تَعلِيمًا، يُناقِضُ فيهِ الرُّوحانيَّةَ الأُرثُوذُكسيّةَ مُتَّهِمًا الرُّهبانَ الأُرثُوذكسَ بِإهدارِ وَقتِهِم سُدىً في الصَّلاةِ القَلبيَّةِ، وأنَّها لا تُجدِي نَفعًا بِمعرِفَةِ اللهِ والاتِّحادِ بِهِ، وَمُدَّعِيًا أنَّ الفَلسفَةَ والمَعرِفَةَ العَقلانِيَّةَ تَأتي بِثِمَارٍ أكثرَ مِن هُدُوئيَّتِهم.

نَجَحَ القِدِّيسُ غريغوريوس في الردِّ عليه بِإظهَارِ الرَّأي المُستقِيمِ، مُؤَكَّدًا أنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ يَتفَوَّهُ بِها نَابِعةٌ مِن خُبرَةِ صَلواتِ آبَاءٍ قِدّيسينَ مُنذُ بَدءِ المَسيحيَّةِ، أفرَغُوا ذَواتِهم لِيمتَلِئُوا مِنَ اللهِ، وشَارِحًا بِاليَقينِ ما قَالَهُ بُولُس الرَّسُول: "وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ الْعَالَمِ، بَلِ الرُّوحَ الَّذِي مِنَ اللهِ، لِنَعْرِفَ الأَشْيَاءَ الْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ اللهِ، الَّتِي نَتَكَلَّمُ بِهَا أَيْضًا، لاَ بِأَقْوَال تُعَلِّمُهَا حِكْمَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ، بَلْ بِمَا يُعَلِّمُهُ الرُّوحُ الْقُدُسُ"(١ كورنثوس ١٢:٢-١٣).

تَركَ قِدّيسُنا كِتابَاتٍ دِفاعِيَّةً عنِ الهُدُوئيّةِ أثمَنَ مِنَ اللآلِىء. وفي العَامِ ١٣٤٧م أَصبَحَ رئيسَ كَهنةٍ عَلى تِسالونِيكِي. عَاكَسَتْهُ الأَوضاعُ السّياسِيَّةُ، وأَسَرَهُ الأتراكُ لِأكثرَ مِن سَنةٍ في خِلالِ رِحلَةٍ إلى القِسطَنطِينيّة، لكنَّهُ لم يَتوقَّفْ عَنِ التَّبشيرِ حتّى وهُوَ فِي سِجنِه. يُقامُ لَهُ أيضًا تذكارٌ في ١٤ تشرين الثاني.

خَصَّصَتِ الكَنيسةُ أن يكونَ هَذا الأَحَدُ مُكَرَّسًا لَلقدّيس غريغوريوس، لِتقُولَ إنَّ الإنسانَ أيقونَةٌ نُورانِيَّةٌ، ويَتَقَدَّسُ بِالنِّعمةِ الإلهِيَّةِ مُنذُ الآن. كَما تَدعُونا لِكَي يَكُونَ إيمانُنا مُستقِيمًا بِالقَولِ والفِعلِ، عقيدَةً وصَلاة.

أهميَّةُ الآباءِ القِدِّيسينَ أنَّهُم شُهودٌ لَنا ويُغنونَنا بِخُبُراتِهم، وقدِ اكتَسَبُوا أعظَمَ فَضيلة، ألا وهي الاتِّضاعُ الكامِلُ، فكُلُّ أبٍ منهم يَجمَعُ في شَخصِهِ الإيمانَ وعَيشَ الصَّلاةِ والمَعرِفة.

الرُّجوعُ إليهِم لَيسَ رَجعيَّةً ولا حَدًّا للفِكرِ ولا يجعل إيمانَنا بَبَغائِيًّا على الإطلاق، بَل يُصبحُ غنًى. وكم هو جميلٌ أن يَغرِفَ الإنسانُ مِنَ الّذينَ بَاتُوا مَنارَاتٍ رُوحِيَّةً، وأناجِيلَ حَيَّةً، وهَياكِلَ للرُّوحِ القُدُس.

نَعَم، الإنسانُ المُتَكَبِّرُ هُرطُوقِيٌّ، ومَن يُريدُ أن يَعرِفَ اللهَ بِعَقلِهِ فَقَط، يقَعُ في الشَّطَطِ والهَذَيان.

اللهُ نُورٌ، وكَلِمَتُهُ نُورٌ، وبِنُورِكَ نُعاينُ النُّور.