منذ بدء انتشار وباء "​كورونا​" على امتداد الأراضي ال​لبنان​ية، بعد "تسلّله" من دولٍ باتت مصنّفة على أنّها "موبوءة" بشكلٍ أو بآخر، تتصاعد الدعوات في لبنان لإعلان حال "الطوارئ" ضمن "عدّة المواجهة"، وهي دعواتٌ لم تخلُ في الكثير من الأحيان من "التوظيف السياسي"، في سياق التصويب على ​الحكومة​.

ومع أنّ الحكومة اختارت، برأي خصومها، المكابرة والهروب إلى الأمام، عبر اعتبار إجراءاتها "نموذجاً يحتذى" في عواصم العالم، رداً على المُطالبين بـ "الطوارئ"، فإنّها اضطرت في نهاية المطاف، إلى ملاقاة المعترضين في منتصف الطريق، عبر إعلان "التعبئة العامة"، التي وصفها كثيرون بأنّها حال "طوارئ مقنّعة"، ولو بقيت أقلّ درجة منها.

وإذا كانت إجراءات الحكومة تأتي في سياقٍ "احترازي" خشية تفشّي الوباء وانتشاره بما يُخرِجه عن السيطرة، في ضوء الإمكانات المتواضعة للقطاع الاستشفائي اللبناني، فإنّ ثمّة من يسأل، لماذا لم تعلن الحكومة حال "الطوارئ"، مفضّلةً "التعبئة العامة" غير المُطبَّقة سابقاً في لبنان عليها؟ وما هي التداعيات التي يمكن أن تترتّب على ذلك؟!.

مسار تصاعديّ

كثيرةٌ هي الانتقادات التي يوجّهها خصوم الحكومة لها، على خلفيّة أدائها في مواجهة أزمة صحية عالمية خطيرة بحجم "كورونا"، والتي يختلط فيها العامل الصحّي، وما يترتّب عليه من هلعٍ عابرٍ للقارات، بعوامل ​السياسة​ والخصومة، وما ينجم عنها من تسجيل نقاطٍ قد تكون "شعبويّة" في الكثير من الأحيان.

وفي وقتٍ يبدو أنّ بعض هذه الانتقادات وقعت في فخّ "المبالغة"، أسوةً ربما بمبالغة البعض في "الهستيريا" بالتعامل مع الوباء، بما يُضعِف القدرة المطلوبة على مواجهته، فإنّ كثيرين يعتقدون أنّها مبنيّة على أساسٍ "صلب"، فالحكومة التي تصرّ على "التغنّي" بما تعتبره "إنجازاتها"، تأخّرت كثيراً في إجراءاتها، التي بدت لفترةٍ طويلة أقرب إلى "المسكّنات" التي لا تجدي.

ولعلّ "نقطة الضعف" التي يسجّلها المعارضون على "خطة عمل" الحكومة، تكمن في أنّ إجراءاتها "الحازمة"، إن جاز التعبير، لم تأتِ إلا بعد الخطابين الأخيرين لكلّ من الأمين العام لـ"​حزب الله​" ​السيد حسن نصر الله​، ورئيس "​التيار الوطني الحر​" الوزير السابق ​جبران باسيل​، واللذين منحا "​الضوء​ الأخضر" لأيّ خطة "طوارئ"، كانت محطّ نقد أنصارهما، وبالتالي مؤيّدي الحكومة، قبل أيامٍ قليلةٍ، خصوصاً بعد بدء التداول بها إعلامياً، في وقتٍ كان الحريّ بالحكومة مثلاً اتخاذ القرار بإقفال ​المطار​، أو بالحدّ الأدنى وقف الرحلات من الدول "الموبوءة" منذ وصول الحالة الأولى من ​إيران​.

وإذا كانت الحكومة ترفض كلّ هذه الاتهامات، وتضعها في خانة "التنظير" لا أكثر، في وقتٍ يفترض أن يسمو التعاون على كلّ الاختلافات، في مواجهة وباءٍ بات يرتقي لمستوى "العدو"، كما قال السيد نصر الله في خطابه الأخير، فإنّها تعتبر أنّ إجراءاتها نجحت في "إبطاء" انتشار الفيروس، على رغم كلّ الدعاية السلبيّة، وأنّها أخذت المسار التصاعديّ المنطقيّ تبعاً لتطوّر الفيروس، إذ لم يكن ممكناً شلّ البلد وعزله عن العالم، لمجرّد وصول حالةٍ واحدةٍ، علماً أنّ دولاً أوروبيّة تفوّقت على لبنان في نسبة انتشار المرض بأشواط، لم تتخذ خطوات "الطوارئ" إلا الآن، مع تسجيل مفارقة إصرار بعض منتقدي الحكومة على "التمثّل" بها كنموذج، خلافاً للحقيقة.

ليست "ترفاً"!

بالنسبة إلى بعض الوزراء، فإنّ الانتقادات التي يوجّهها البعض إلى الحكومة تفتقد إلى الحدّ الأدنى من المنطق، إذ انّ البعض يكاد يذهب في معارضته للحكومة، إلى درجة تحميلها مسؤولية اختراع المرض ربما، علماً أنّ تنفيذ الإجراءات التي يطالب بها هذا البعض لم يكن ليحيّد لبنان عن المواجهة العالمية، بدليل أنّ أكثر من حالةٍ وصلت من دولٍ لم تكن مُعلَنة موبوءة، أقلّه وفق معايير ​منظمة الصحة العالمية​، على غرار مصر مثلاً، في وقتٍ لم يكن أحد يطالب بوقف الرحلات معها.

لكن، وبعيداً عن هذه الانتقادات وما تحمله من أبعادٍ ودلالات، وبعيداً عن التلويح بمقاضاة الحكومة عبر رئيسها ووزير صحّتها، جاءت خطة "الطوارئ" أخيراً تحت عنوان "التعبئة العامة" لتلاقي المعترضين في منتصف الطريق، وفق مبدأ "أن تأتي متأخّراً خير من أن لا تأتي أبداً"، إلا أنّها اصطدمت بمجموعة من علامات الاستفهام، فلماذا لم تعلن الحكومة حال "الطوارئ"، واكتفت بـ "التعبئة العامة" التي تبقى أقلّ درجة منها، وهل للأمر صلة بخوفها من "انقلابٍ عسكريّ" كما ذهب بعض المغالين، أو من "شماتة" البعض الآخر؟ وهل يبقى إعلان الطوارئ وارداً تبعاً لتصاعد الأحداث؟.

في المبدأ، يرى الكثيرون من أنصار وجهة النظر الحكوميّة، كما من الحقوقيّين والقانونيّين، أنّ المُستغرَب ليس أن لا تعمد الحكومة إلى إعلان خطة "الطوارئ"، بل إلى مطالبة الكثير من المواطنين والسياسيين بها، وكأنّ حالة "الطوارئ" هي برأي البعض بمثابة "ترف" لا بدّ منه، علماً أنّ البعض سبق أن طالب بها حتى في مرحلة ​التظاهرات​ التي شهدها لبنان أخيراً، في حين أنّ حالة "الطوارئ" التي ينصّ القانون على فرضها في حالاتٍ معيّنة، كالحروب والكوارث والاضطرابات، أو كلّ ما يصبّ في خانة "الخطر الداهم"، ترتبط بمجموعةٍ من الإجراءات التي لا تصبّ بالضرورة في الصالح العام، بل إنّها يمكن أن تنعكس سلباً على الحرّيات العامة من حيث تقليصها، كما يمكن أن تؤدي إلى سلسلة تدابير استثنائية، يتوقّف معها العمل بالقوانين النافذة.

ومع الإقرار بوجود "فارق" بين "الطوارئ" و"التعبئة العامة"، فإنّ المقاربة الحكومية تميل إلى اعتبار الثانية أكثر من كافية في الوقت الراهن، خصوصاً أنّ خطة "التعبئة" التي أعلنت عنها الحكومة تتضمّن جميع الإجراءات الممكنة والمُتاحة، بما فيها إقفال المطار، في حين أنّ فرض "حظر التجوّل" بالكامل، والذي خضع للنقاش في ​مجلس الوزراء​، تبيّن أنّ دونه عقبات كثيرة، تتعلق بمصالح المواطنين، وقدرتهم أصلاً على "الصمود" في هذه الفترة، علماً أنّ القوى الأمنيّة والعسكريّة ستكون معنيّة بمنع أيّ تجمّع أو اكتظاظٍ بشريّ، في أيّ مكانٍ عام أو خاص، ولو بالقوّة، على أن يتمّ "تقييم" الإجراءات المُتّخذة في القادم من الأيام، ليُبنى على الشيء مقتضاه.

المسؤولية الوطنية!

بين "الطوارئ" و"التعبئة العامة"، يطول ​النقاش​ ولا ينتهي، تماماً كالصراع القائم حول الإجراءات الحكوميّة، وما إذا كانت في مكانها الصحيح، أم أنّها تأخّرت كثيراً بما أفرغها من مضمونها، ووضع البلاد في مستوى "الدفاع" بدل "الهجوم"، إن صحّ التعبير.

وبين هذا وذاك، لا تتوقّف الانتقادات "المسيَّسة"، بين من يلوم "حزب الله" مثلاً على عدم التعامل مع "العدو المستجدّ" كما تعامل مع "داعش" وغيره، الذي واجهه في عقر داره حتى لا يصل إلى بيوت اللبنانيين، بعكس التعامل مع "كورونا" مثلاً، ومن يهاجم المعارضة في المقابل على البحث عن "بطولاتٍ وهميّة" في "الوقت الضائع".

إزاء كلّ ذلك، قد يكون المجدي اليوم الكفّ عن كلّ هذه "المهاترات"، ليس لأنّ حالة "الطوارئ" التي لم تُعلَن بمعناها الواسع، تفرض ذلك، بل لأنّه ما تقتضيه المسؤولية الوطنية بالحدّ الأدنى، مسؤوليّة قد يكون مجدياً أن تترجم بإطلاق مبادراتٍ مجتمعيّة أكثر من ضروريّة، بدلاً من صرف الوقت على مشاحناتٍ لا جدوى منها في الوقت الراهن...