تتأَرجح المسؤُوليَّة الإِعلاميَّة في "زمن كورونا العصيب"، بين التَّوجيه والتَّوعية لناحية المخاطر الَّتي قد يتسبَّب بها هذا الوباء السَّريع الانتشار... ووجوب عدم الوصول إِلى حدِّ تيئيس النَّاس لأَسبابٍ تدخل في إِطار النَّكد السِّياسيّ وتسجيل المواقف...

ففي التَّيئيس الإِعلاميِّ–الَّذي كُنَّا أَشرنا إِليه في المقالة السَّابقة على "​النشرة​" الإِلكترونيّة، على اعتبار أَنَّه تدميرٌ للأَواصر الاجتماعيَّة، يقود المُجتمع حتَّى يُضحي مُشوَّهًا في تفكيره، ومُخلخلاً في تماسه الاجتماعيِّ، ويكون التَّحكُّم به حينئذٍ، أَكثر بكثيرٍ مِن المُجتمعات والأُمم المُستقرَّة فكريًّا واجتماعيًّا... لأَنَّ المُجتمع إِذا اختلَّت بنيته الاجتماعيَّة المُكوَّنة مِن درايةٍ وتمرُّسٍ، فإِنَّ زرع ثقافة اليأْس فيه يكون عاملاً للتَّعجيل في محوها وفنائِها، وفي أَفضل الحالات إِضعافها إِلى درجةٍ خطِرةٍ.

كما وتكمُن الخُطورة أَيضًا في أَنَّ طبيعة الإِنسان قد تستقبل التَّيئيس أَسرع مِن استقبالها نقيضَه، وهكذا تتكوَّن قاعدةٌ مُجتمعيَّةٌ عريضةٌ، كلُّها تعتنق اليأْس في النَّظر إِلى الواقع وتشكيلاته المُختلفة، وتمنع المُعالجة السَّليمة لدحض هذه الثَّقافة الَّتي تشلُّ العقل وتوقف أَنشطة ​الإنسان​ (العراقيُّون اليوم، أَو نسبةٌ كبيرةٌ منهم، مُصابون باليأْس مِن التَّغيير، وعدم القدرة على مُحاسبة الفاسدين، والاستسلام للموجود في الواقع، والانصياع إِلى حال الخُنوع والقُبول بأَقلّ ما يُمكن الحُصول عليه، حتَّى ولو كان من قبيل ما يسدُّ الرَّمق عبر السلَّة الغذائيَّة البائِسة، في مُفردات البطاقة التَّموينيَّة الَّتي تُسيء إلى الإِنسان، وتجعله كسولاً وريعيًّا بامتيازٍ).

وموجة التَّيئيس لا تأْتي عبثًا أَو اعتباطًا، ولا هي حدثٌ طارئٌ أَتت به الظُّروف تلقائيًّا، بل إِنَّها ظاهرةٌ مُصنَّعةٌ بإِتقانٍ، يُخطَّط لها إِجمالاً في درايةٍ، مِن جهاتٍ خارجيَّةٍ...

ومِن أَخطر وسائل الإِعلام تلك الَّتي تشترك مع سبق الإِصرار، في نشر "ثقافة التَّيئيس"، بين أَكبر طبقةٍ مُمكنةٍ مِن المُواطنين، وهُنا المقصودة في ذلك، الطَّبقة الأَوسع، المُكوَّنة مِن البُسطاء والفُقراء، بسبب قلَّة الوعي، وضعف التَّعليم، وتدنِّي المُستوى الثَّقافيِّ.

الابتذال

الابتذال مِن "الفيروسات الإِعلاميَّة" الهدَّامة أَيضًا، وهو ينشأُ مع تراجُع الضَّوابط الخُلقيَّة والقوانين الرَّادعة، بحيثُ تتَّسع فُوَّهة المُشاحنات بين الأَفرقاء السِّياسيِّين عبر وسائِل الإِعلام، ويتخلَّلها جُموحٌ، وغضبٌ، وشرارٌ مُتطايرٌ، وأَسوأُ الكلام وأَرذله، في فترةٍ هي الأَسوأُ في تاريخ الإِعلام المرئيِّ، الَّذي يجعلُ من هذه الخلافات، ركيزته وعصبه المُحرِّك، إِمَّا عبر الاستنجاد بـ"كرونيكور" يُجيد فنَّ السَّفسطة (امّا عبر الحديث عن أي موضوع، حتّى ولو لم يكن معدّ البرنامج ومقدّمه على دراية به، شرط تضمينه فن السفسطة)... أَو عبر استدعاء شخصيَّاتٍ سياسيَّةٍ يُشهد لها بماضٍ سيِّء الذِّكر في البرامج الإِعلاميَّة، بسبب قُدرتها الفائِقة على افتعال المُشاحنات والمشادَّات الكلاميَّة، وهو الشَّرط المطلوب لدى وسائل الإِعلام.

وقد تحوَّلت هذه المُشاحنات مادَّةً ثريَّةً للـ"بلاتوهات" التِّلفزيونيَّة، تستفيد منها قنواتٌ خاصَّةٌ مُقابل "صراع الدِّيَكة" أَو المُشاحنات الشَّخصيَّة. وقد باتت نسبة المُشاهدة في بعض هذه البرامج، مُرتبطةً بمدى استعداد الضُّيوف، لخوض شجارٍ من المُستوى الأَوَّل، بمُساهمةٍ من المُعدِّ أَو بصفةٍ تلقائيَّةٍ، حتَّى أَنَّ بعض الإِعلاميِّين باتوا يُغلبِّون استدعاء أَكثر الشَّخصيَّات حدَّةً وافتعالاً للمشاكل، بدلاً مِن الشَّخصيَّات الرَّصينة والهادئة تحت شعار "أَنجحهم... أَكثرهم شجارًا"، وقد يبدأُ الحوار مثلاً في اختلافٍ في وجهات النَّظر حيال مواجهة "​فيروس كورونا​ المُستحدث" ويتدرَّج في الابتذال إِلى ما لا تُحمد عُقباه ولا نتائجه وتردُّداته...

وهكذا تُؤَدِّي وسائِل الإِعلام دورًا مُكمِّلاً في تغذية الخلافات السِّياسيَّة. ويُضْحي الإِعلام إِذَّاك، مركزًا رئيسيًّا لبثِّ الكراهية، ومنصَّةً لنقل المعارك الطَّاحنة والتَّحريض الأَعمى للاستفزاز والإِقصاء، في ظلِّ غيابٍ ملحوظٍ لإِعلامٍ مهنيٍّ يحتكم للحرفيَّة والموضوعيَّة، وفي غياب نجاعة أَدوات الرَّدع الذَّاتيَّة والقانونيَّة...

"فُلانٌ يُهاجم فلانًا... وفلانٌ يردُّ على علَّانِ..." عناوين تُكتب بِالخطِّ العريض في المواقع الإِعلاميَّة، وتجد نصيبها مِن نسب المُشاهدة، وبين هذا وذاك يقف المُنشِّط مُستمعًا، منتشيًا بنسب المُشاهدة الآخذة في الاتِّساع، فكلُّ لفظٍ سيِّءٍ بالنِّسبة إِليه هو بابٌ للارتزاق...

ولكنَّ بعض المُشاهِدين يجدون لذَّة الانتقام من السِّياسة والسِّياسيِّين، ولو من خلال "فيروس الابتذال" هذا... ما يطرحُ بالتَّالي الكثير مِن الشُّبهات، في شأْن الدَّور الَّذي يضطلع به جزءٌ من الإِعلام.

الافتراء

كلمة "افتراء" مُشتقَّة لُغويًّا من كلمة فريَّة، ومُرادفها الكذب والاختلاق بهدف إِلصاق تُهمةٍ شائنةٍ كاذبةٍ بأَحد النَّاس. والافتراء هو اعتداءٌ على الإِنسان، لِما يُشكِّله مِن مساسٍ بكرامته وسُمعته وشرفه، ولِما قد يُسبِّبه من احتمال صُدور حُكمٍ قضائيٍّ مبنيٍّ على وقائع غير صحيحة، نتيجة الشِّكاية المُفترية، فتنزل عُقوبةٌ في حقِّ إِنسانٍ بريءٍ ممَّا نُسب إِليه. وحُكم النَّاس والرَّأْي العامّ، يكونان أَحيانًا أَشدَّ إِيذاءً وقسوةً من حُكم القضاء!.

كما وأَنَّ الافتراء يعترض حُسن سير العدالة القضائيَّة، فيُسيءُ إِلى صدقيَّتها ونزاهتها، ويُؤَدَّي إِلى تغيير اتِّجاهها السَّليم...

والقانون اللُّبنانيُّ هو أَحد القوانين الَّتي جرَّمت الافتراء واختلاق الجرائِم، حيثُ نصَّت المادَّة 402 من قانون العُقوبات، على أَنَّ "مَن أَخبر السُّلطة القضائيَّة أَو سُلطة يجب عليها إِبلاغ السُّلطة القضائيَّة، عن جريمةٍ يعرف أَنَّها لم تُقترف، ومَن كان سببًا في مُباشرة تحقيقٍ تمهيديٍّ أَو قضائيٍّ باختلاقه أَدلَّةً ماديَّةً على جريمةٍ كهذه، عوقب بالحبس مُدَّة لا تتجاوز السِّتَّة أَشهرٍ، وبغرامةٍ لا تزيد على مئة أَلف ليرةٍ، أَو بإِحدى العُقوبتين".

كما ونصَّت المادَّة 403 من قانون العُقوبات، على أَنَّ "مَن قدَّم شكايةً أَو إِخباراً إِلى السُّلطة القضائيَّة أَو إِلى سُلطةٍ يجب عليها إِبلاغ السُّلطة القضائيَّة، فعزا إِلى أَحد النَّاس جنحةً أَو مُخالفةً يعرفُ براءَته مِنها أَو اختلق عليه أَدلَّةً ماديَّةً على وقوع مثل هذا الجُرم، عوقب بالحبس من شهرٍ إِلى ثلاث سنوات. وإِذا كان الفعل المعزو يُؤَلِّف جنايةً، عوقِب المُفتري بالأَشغال الشَّاقَّة المُوقَّتة عشر سنواتٍ على الأَكثر. وإِذا أَفضى الافتراء إِلى حُكمٍ بِالاعدام أَو بِعقوبةٍ مُؤَبَّدةٍ، فلا تنقُص عُقوبة الأَشغال الشَّاقَّة عن عشر سنواتٍ، ويُمكن أَنْ تصل إِلى خمس عشرة سنةً".

مع الأَسف فإِنَّ الكُثر مِن المُتعاطين في الرَّأْي العامِّ كما وفي شُؤون السِّياسة وشجونها... لا يُدركون هذه الحقائق، لأَنَّهُم لو أَدركوها، لكانوا وقوا أَنفسهم وجنَّبوا البلاد والعباد... تداعيَّاتها السَّلبيَّة، فكيف بِالحريِّ إِذا ما كانت فيروساتُها تتسلَّل إِلى مُجتمعنا، تزامنًا مع فيروسات كورونا؟.