لن يستطيع ​العالم​ أن يخرج قريباً من تداعيات فايروس ​كورونا​. فلنفترض أن إنحسارها يحتاج الى أشهر من ​الوقاية​، على الطريقة ال​لبنان​ية الناجحة والمضبوطة حتى الآن. مما يؤكد أن المجتمعات ستتكيّف مع وجود الفايروس. مشهدان متوازيان عبرا القارات: أولاً، الطمأنة لمستجدات ​الصين​ التي حدّت من تمدد كورونا. ثانياً، القلق من ​العجز​ الأوروبي الذي فرض الهلع الشعبي الدولي، إبتداء من ​إيطاليا​ مروراً ب​فرنسا​ و​بريطانيا​ وجيرانهم، وصولاَ الى ​الولايات المتحدة​ الأميركية.

نجاح التجربة الصينية بإستيعاب الفايروس، إنطلاقاً من ضربه بمهده في ​ووهان​، شجّع العالم على تقليد الأسلوب الصيني بالوقاية والحجر والعزل. لكنّ ​اوروبا​ تأخرت في فرض تغييرات مجتمعية: بقي الفرنسيون يسهرون ويتخالطون حتى الأيام الماضية. الإيطاليون تأخروا كثيراً في إتخاذ خطوات وقائية. البريطانيون اعتمدوا على أسلوب ترك الفايروس يتمدد كي يأخذ مداه، وهنا يعني ان تكلفة المواجهة صعبة كما عبّر رئيس ​الحكومة البريطانية​ نفسه عن الإستعداد لتوقّع خسائر أحباء.

بالإنتقال الى الولايات الأميركية، تفاوت القلق بين ولاية وأخرى، لكن مشهد طوابير الناس أمام مخازن المواد الغذائية يوحي بعمق ​الأزمة​. لم نلاحظ المشهد في الصين، بل تكرر في دول أوروبية والولايات المتحدة. بدأت تلك الشعوب ترفع الأصوات عالياً جراء الأزمة الصحية التي تضرب ​الإقتصاد​ تدريجياً، رغم جهوزية الحكومات الغربية لمواكبة شعوبها. لكن ثمة تغييرات حلّت من دون إستئذان في ظل أزمة مالية معيشية، دفعت ​واشنطن​ الى الحد من سحب المودعين لأموال تزيد عن ٣٠٠٠ ​دولار​ شهرياً. ستزداد الامور سوءاً وتؤثر في إستيلاد نظام عالمي إقتصادي جديد.

يختلف المشهد في ​الدول العربية​، التي تقلق من دون ان تشعر بأزمة موجعة حتى الآن. فلنأخذ المثال اللبناني، الذي فرض فيه فايروس كورونا متغيّرات مجتمعية. عندما كان الصينيون والغربيون يدعون الى التزام المنازل، لم يكن القصد تغيير عاداتهم الإجتماعية، بقدر ما هي إجراءات لتخفيف التجمعات في الأماكن العامة، والمؤسسات، والمكاتب. بينما كانت الدعوة في لبنان بشكل أساسي تنصب حول منع اللقاءات في ​المطاعم​، والتجمعات، والنوادي والسهرات المنزلية الجامعة، والنشاطات المشتركة شبه اليومية بين الأصدقاء والأقارب.

إستطاع الفايروس المخيف فرض تعديلات جوهرية على طبيعة حياتنا اليومية، ستترك الأثر في مرحلة ما بعده. مهما بقي كورونا بيننا. سيعتاد المواطنون على البقاء في منازلهم بشكل أطول، بعد ان كانت سرقتهم طبيعة العيش خارجها في الآونة الأخيرة. سيلجأون بصورة أكبر الى وسائل التواصل الإجتماعي للإعتماد عليها كمنبر للإطلالة على جوانب المجتمع كافة. سينسجم ​الطلاب​ والتلامذة و​المدارس​ والجامعات مع طروحات التعليم عن بعد "أون لاين". ستعود العلاقة التفاعلية بين الأهل وأبنائهم الى عزّها. يرسّخ التلفزيون مجده الجماهيري كأحد وسائل التسلية في المنازل. سيخف الإعتماد على الأكل الجاهز نتيجة مخاوف تمدد كورونا، مما يعزز من وضع الأطباق الصحية الطازجة.

لم تعد الزيارات والمجاملات بين الأصحاب، رغم خصوصيتها في بلادنا قائمة الآن. تدريجياً تتراجع العادات كالمشاركة في التعازي الحاشدة خلال وداع ميت او ذكرى وفاة. فهل تفرض كورونا كل هذه المتغيرات الى ما بعد ذهابها؟ اذا كان أمر إقامتها طويلاً بيننا، كما توحي التقارير الطبّية لغاية ٦ إلى ٨ أشهر، فإن التعايش سيفرض أساليب حياة جديدة بالطبع. خصوصاً ان إنحدار موجة الفايروس لا يعني شفاء المجتمعات منه، بل استمرار الوقاية لعدم السماح له بالإقتحام مجدداً. الخطير بالأمر هو نسب ​البطالة​ و​الفقر​ التي سترتفع جرّاء إنعدام العمل في المؤسسات المقفلة. فما هو البديل؟ وهل ترتفع صرخة الناس الى حد غير مسبوق؟ اذا طال وجود كورونا في زمن أزمة إقتصادية مالية لبنانية، سيكون كل شيء وارداً.

الأهم، أن ​الإنسان​ سيتواضع بعدما طحش في ​الحياة​ طولاً وعرضاً. يُلزمه الآن فايروس غير مرئي بالعزل وتحديد حركته، وضبط حركاته، ودراسة خياراته. وها هو تأثيرٌ غير مباشر ظهر في إنخفاض ​التلوث​ في المدن، كما اظهرت المشاهد في ​بيروت​ نتيجة إنبعاثات ​الغاز​ والنفط، ولا سيما من دخان السيارات بعدما خفّت التنقلات. الأمر إنطبق على كل دول العالم، وكأن الأرض تقول: إني اتنفس الآن. وتلك معادلة تثبت ان كل ما يحدث في الدنيا يفرض إيجابيات كما السلبيات. لذا، يحمل الواقع الكوروني معه متغيرات مجتمعية ايجابية، لو كان الوضع الإقتصادي سليماً لا على حافة الهاوية.