التراشق الإعلامي الذي حصلمؤخّرًا بين الحُكومة ال​لبنان​يّة ووزير المال ​غازي وزني​ من جهة، وبين جمعيّة ​المصارف​ برئاسة ​سليم صفير​ من جهة أخرى، يتجاوز قرار المصارف الإقفال القسري حتى نهاية الشهر قبل التراجع جزئيًا عنه، وهو يرتبط بُمواجهة مَفتوحة بين السُلطة التنفيذيّة في لبنان والمصارف، بدأت منذ فترة طويلة، وإحتدمت بعد إحتجاجات 17 تشرين الأوّل من العام الماضي، وهي لا تزال مُستمرّة حتى تاريخه، وآخر تجليّاتها التباين في الرأي بين الطرفين بشأن مشروع القانون الذي أعدّته ​وزارة المال​، والذي يضع ضوابط قانونيّة لبعض العمليّات المصرفيّة، وهو الموضوع الذي كان مدار بحث مُوسّع ونقاش حام خلال جلسة ​مجلس الوزراء​ أمس. فما هي المَعلومات بشأن أسباب وخلفيّات هذه المُواجهة المَفتوحة والمُرشّحة للإستمرار خلال المرحلة المُقبلة؟.

أوّلاً: جُذور الخلاف تعود إلى الثغرة المالية الهائلة على مُستوى ما يملكه ​مصرف لبنان​ من ودائع ماليّة عمليًا، وما يُفترض أن تملكه المصارف من ودائع ماليّة تعود للمواطنين! وفي هذا السياق، تتهم جهات سياسيّة عدّة المصارف بتبديد ودائع الناس لديها، بفعل توظيفها أموال المُودعين في عمليّات إستدانة خطرة وغير مَحسوبة النتائج، طمعًا ب​تحقيق​ أرباح سريعة. في المُقابل، تُدافع المصارف عن نفسها بإتهام ​الدولة​ بالإستدانة منها في مُقابل فوائد مرتفعة جدًا،وبشكل عشوائي ومُبالغ فيه، ثم العجز عن رد الدُيون بسبب تفاقم حجم هذه الأخيرة وحجم فوائدها.

ثانيًا: منذ العام 2019 تُطالب جهات سياسيّة عدّة مُمثّلة في السُلطة التنفيذيّة في لبنان، المصارف، بالمُساهمة في دعم خزينة الدولة، عبر التضحية بجزء من أرباحها، لتخفيف ​العجز المالي​ وللحدّ من تراكم ​الدين​، لكنّ المصارف ترفض ذلك، وتعتبر أنّها لن تُبدّد أموالها لصالح سُلطة لم تُبادر إلى تنفيذ أيّ إصلاحات جدّية تُوقف الهدر العام. وتريد ​الحكومة​ من المصارف المُساهمة معها في مُعالجة مُشكلة الديون الداخليّة والخارجيّة، بينما تعتبر المصارف أنّ تخلّف الدولة اللبنانيّة عن سداد ما هو مُستحقّ عليها من ديون لجهات خارجيّة، سيعود بإنعكاسات سلبيّة جدًا على سُمعة مصارف لبنان في الخارج، وبالتالي على أعمالها الإستثماريّة وعلى قدرتها على الصُمود في ظلّ الأزمات المُتلاحقة الحاصلة.

ثالثا: من ضُمن الخلافات المُتراكمة أيضًا بين جزء من الأحزاب السياسيّة الرئيسة المُمثّلة في السُلطة، رفض "​حزب الله​" قيام المصارف اللبنانيّة بتبنّي التعليمات الماليّة الأميركيّة والتي تهدف-بحسب "الحزب"، إلى مُحاصرة جُمهوره ماليًا، في حين تعتبر المصارف أنّها تتقيّد بالإجراءات المَصرفيّة ​العالم​يّة، للحفاظ على تواجدها ضُمن المَنظومة المالية الدَوليّة، ولحماية المصارف من أيّ عُقوبات مُدمّرة، كما حصل مع "جمّال ترست بنك" الذي إضطرّ لتصفية خدماته، بعد وضعه على لائحة سوداء من قبل الإدارة الأميركيّة.

رابعًا: "الكابيتال كونترول" هو من بين المواضيع الخلافيّة بين المصارف والحُكومة الحالية، لأنّ هذا الموضوع حسّاس جدًا بالنسبة إلى اللبنانيّين، وإرتداداته السلبيّة كبيرة على المُودعين وعلى ​الإقتصاد​. لذلك، تُحاول الحكومة رمي دوافع هذا القرار على المصارف، في حين تُحاول هذه الأخيرة، تحميل السُلطات السياسيّة المُتعاقبة في لبنان، مسؤوليّة ما وصلت إليه الأمور ماليًا. والخلاف المُستجدّ بين الطرفين على مسألة الجهة التي يحقّ لها تحديد حجم السُحوبات من الودائع بالعملات الصعبة داخل المصارف، تدخل في سياق الكباش نفسه بين الحكومة والمصارف. وعدم التوصّل إلى تسوية في هذه المسألة خلال جلسة مجلس الوزراء–كما كان مُتوقّعًا، يعود إلى تشعّب الخلاف، وإلى تضارب في الرأي، ليس بين المصارف والحكومة فحسب، بل ما بين أفرقاء سياسيّين على طاولة الحكومة وخارجها أيضًا.

خامسًا: يُوجد خلاف بين جزء من السُلطة السياسيّة الحاكمة حاليًا في لبنان من جهة، وجهات سياسيّة ومصرفيّة من جهة أخرى، بشأن هويّة الأشخاص الذين سيتمّ تعيينهم في مواقع مالية حسّاسة مرتبطة ب​المصرف المركزي​ (4 نوّاب لحاكم مصرف لبنان)، وفي مؤسّسات تابعة له أو مرتبطة به (مُفوّض الحكومة لدى مصرف لبنان، ورئيس وأعضاء لجنة الرقابة على المصارف)، وذلك للحفاظ على أكبر قدر مُمكن من السيطرة على مواقع إتخاذ القرارات الماليّة.

في الخُلاصة، من سوء حظّ المُودعين اللبنانيّين أنّ المصائب تتوالى على لبنان والعالم، الأمر الذي يُعقّد أكثر فأكثر إحتمالات تلقّي لبنان مُساعدات إقتصادية وماليّة خارجيّة في المُستقبل القريب. وأمام هذا الواقع السلبي، من المُرتقب إشتداد الخلافات بين الحكومة والمصارف، إنطلاقًا من المثل الشعبي القائل: "القِلّة بتولّد النقار"، والأكيد أنّ المُودعين سيدفعون الثمن الأكبر لهذه المُواجهة المَفتوحة...