منذ ما قبل ولادة الحكومة، اجتهد "عرّابوها" في محاولةٍ لتصويرها على أنّها "فريدة" من نوعها، لا تشبه أياً من سابقاتها، ولا تنتمي بالتالي إلى نهج "المحاصصة" الذي لطالما تحكّم بالحكومات في ​لبنان​، على رغم بعض "التسريبات" حول خلافاتٍ على حصّةٍ من هنا أو حقيبةٍ من هناك كادت تطيح بالتركيبة الوزاريّة حتى قبل أن تبصر النور.

اجتازت الحكومة الكثير من "المطبّات" التي وُضِعت في طريقها، بعدما "تبرّأ" السياسيّون ظاهرياً منها، ليبدو "الانسجام" بين مكوّناتها أمراً واقعاً، عزّزته "التحديات" التي ارتأت الحكومة أن تكون "مواجهتها" عنوان أدائها، "تحدياتٌ" بدأت اقتصادية واجتماعية ومالية على وقع الحراك الذي وُلِدت من رحمه، قبل أن تطال الصحّة مع تفشّي وباء "كورونا" على امتداد الأراضي اللبنانية.

في الساعات الأخيرة، بدا وكأنّ هذا "الانسجام" بدأ يتلاشى شيئاً فشيئاً، ليهدّد في مكانٍ ما الحكومة نفسها، ويضع "تضامنها" في مهبّ الريح، الأمر الذي "فضحه" رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، الذي ذهب إلى حدّ "التلويح" بإعادة النظر بالمشاركة فيها، تزامناً مع بروز ما وُصِف بـ"الكباش الأول" على طاولة ​مجلس الوزراء​، على خلفية مشروع قانون "الكابيتال كونترول".

الخلافات موجودة...

بخلاف الصورة السائدة عن الحكومة، والناتجة ربما عن "الدعاية" التي رافقت انطلاقتها، والتي دفعت كثيرين إلى اعتبارها "حكومة لونٍ واحدٍ"، في غمزٍ من قناة الكتل السياسية التي أسهمت في "صنعها"، بعد التوافق على هويّة رئيسها، فإنّ الحديث عن خلافاتٍ، أو ربما "تبايناتٍ" في "الرؤى" داخل الحكومة ليس جديداً، بل يكاد يكون من "الثوابت" التي رافقت مختلف محطّاتها.

فإذا كانت أزمة "كورونا" وقبلها مستحقات "اليوروبوندز" فرضت "وقعها" على الحكومة، وانعكست "تكافلاً وتضامناً" شبه مُطلَقٍ بين مكوّناتها أمام الرأي العام، فإنّ ذلك لم يُخفِ، كما يقول مؤيّدو الحكومة أنفسهم، وجود اختلافاتٍ في وجهات النظر حول الكثير من القضايا، تكاد تشبه "الخلافات" التي لطالما اعتُبِرت من "عدّة الشغل" في الحكومات السابقة، والتي تلطّت خلف شعار "الوفاق الوطني" أو "الوحدة الوطنية" لتبريرها، أو حتى تحويلها إلى "نعمة"، ولو أدّت إلى "شلل" الحكومة وعجزها عن إنجاز شيء.

ولعلّ أكثر الملفّات الخلافيّة التي طفت على السطح في الآونة الأخيرة تمثّلت في موضوع "صندوق النقد الدوليّ"، على سبيل المثال لا الحصر، حيث كان لافتاً خروج عددٍ من القياديّين في "حزب الله"، في العلن وعبر الإعلام، بمواقف معترضة بالمُطلَق على أيّ تعاونٍ مع الصندوق لحلّ الأزمة الماليّة والاقتصاديّة، في وقتٍ كان رئيس الحكومة يُبدي عبر فريقه الاقتصاديّ، كلّ "الانفتاح" على مثل هذا التعاون، بوصفه ربما "أهون الشرَّيْن"، أو "الخلاص الوحيد" الذي لا بدّ منه.

وقد تكون النظرة إلى الحراك الشعبيّ من النقاط السجاليّة بين مكوّنات الحكومة المختلفة، باعتبار أنّ رئيس الحكومة مثلاً يعتبر نفسه مع عددٍ من الوزراء "ممثّلين" لهذا الحراك، في وقتٍ لا تنكر أطرافٌ أخرى معارضتها الشديدة له، علماً أنّ هناك من يشير إلى أنّ الحكومة تضمّ عوامل "انفجارها" داخل جسمها، من دون الحاجة إلى البحث في الخارج، باعتبار أنّ "لونها الواحد" المفترض يختزل "ألواناً" بالجملة، لطالما شكّلت "جبهاتٍ" في حكوماتٍ سابقة، على غرار "التيار الوطني الحر" و"تيار المردة"، أو "حركة أمل"، على سبيل المثال لا الحصر.

أبعد من التعيينات!

خلال الأيام الماضية، بدأت الخلافات الحكوميّة تتصاعد، أقلّه في الإعلام، بعد مرحلةٍ من "الهدنة" التي فرضتها الظروف الاقتصادية والصحية، لتصل إلى أوجها في جلسة الحكومة، مع طلب وزير المال غازي وزني سحب مشروع قانون "الكابيتال كونترول" الذي سبق أن قدّمه من التداول، الأمر الذي أوحت "تسريبات" جلسة مجلس الوزراء الأخيرة أنّه أثار "استهجان" رئيس الحكومة، ولو أنّ القانون المذكور كان قد سقط شعبياً، باعتبار أنّ بنوده المسرَّبة جاءت لمصلحة المصارف، لا المودِعين.

ولم يكن "الكباش" الماليّ "معزولاً" على ما يبدو، إذ جاء بالتزامن مع "تغريدةٍ" بدت أكثر من لافتةٍ ونافرةٍ في الآن نفسه، لرئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، باعتبار أنّها استعادت أجواء الحكومات السابقة، على خلفيّة حديثه عن "تهريب تعيينات وتمرير صفقات"، ملوّحاً في الوقت نفسه بأن "يبني على الشيء مقتضاه" في ما يخصّ المشاركة في الحكومة. ومع أنّ فرنجية تعمّد "تبرئة" نفسه بالقول إنّه لا يريد "حصّة"، فإنّ تغريدته أوحت لكثيرين أنّ "المحاصصة" في التعيينات عادت لتطلّ برأسها، عند أول استحقاقٍ تواجهه الحكومة، ما يدحض كلّ الأقاويل عن نهجٍ آخر تسعى إلى تكريسه.

وإذا كان اعتراض فرنجية ناجماً، برأي البعض، من خلافه "الشخصيّ" مع رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير الوزير السابق جبران باسيل، في ظلّ "الصراع" المستمرّ بينهما حتى انتخابات الرئاسة المقبلة بالحدّ الأدنى، وأنّه رفع الصوت احتجاجاً على "التسريبات" التي بدأت تتوالى عن "طبخ" التعيينات ثنائياً بين رئيس الحكومة وباسيل، فإنّ كثيرين يرون أنّ "بصمات" رئيس مجلس النواب نبيه بري حاضرة خلف "تلميحات" باسيل. ولعلّ ما يعزّز هذه المقاربة، أنّ بري كان قد استبق كلّ تطورات الساعات الأخيرة، بـ"تصويبٍ" مباشرٍ على دياب، على خلفيّة عدم إعلان حال الطوارئ، وقوله مثلاً إنّه لم يفهم سبب عدم إقدام رئيس الحكومة على الأمر، على رغم "وعدٍ" قطعه له بذلك.

وإذا كان واضحاً أنّ هذه الخلافات هي أبعد وأعمق من "التعيينات"، وترتبط بالصراعات السياسية الموجودة، فإنّ الأكيد برأي المراقبين، أنّ الأمر لا يعدو كونه مجرّد "مناوشات" لتحصيل بعض المكاسب في التعيينات وغيرها، وتسجيل النقاط التي يمكن توظيفها لاحقاً، لكنّها لن تصل إلى حدّ "الإطاحة" بالحكومة أو التهديد بذلك، لأنّ لا "بدائل" متوافرة في الوقت الحاضر، علماً أنّ "الفرصة" التي نجحت الحكومة في "جنيها" من أعتى خصومها في المعارضة والحراك الشعبي على حدّ سواء، لا يفترض أن تكون قابلة للجدال من داخلها، مهما اشتدّت التباينات والاختلافات.

قبل فوات الأوان!

حصلت الحكومة على "الفرصة" التي أرادتها من معارضيها، الذين التزموا نسبياً الصمت، مع بعض "الخروق" البسيطة والمشروعة، وكذلك من الحراك الشعبي، الذي أجبرته "كورونا" على تمديد "مهلة السماح" التي منحها للحكومة، والتي كان على وشك إنهاء العمل بها، لولا الظروف الصحّية القاهرة.

لكن، هل استفادت الحكومة من هذه الفرصة لتكريس نموذجٍ جديدٍ في العمل الوزاريّ، بعيداً عن "المحاصصة" التي طبعت الحكومات السابقة؟ أين وظّفت هذه الفرصة لتحقيق "إنجازاتٍ" كانت وعدت بالعمل عليها منذ اليوم الأول؟.

قد يكون الحكم من الآن على الحكومة ظالماً، خصوصاً أنّها تواجه "محنة" لم يسبق أن واجهتها حكومة أخرى في التاريخ الحديث، ولكن، ولأنّ المكتوب يُقرَأ من عنوانه، والعنوان ينتقل من التشكيلات القضائية وغيرها من التعيينات، ويمرّ عبر الخطة الإصلاحيّة الموعودة، فقد يكون لزاماً على الحكومة أن تتحرّك... وقبل فوات الأوان!.