خلال الأوقات الصعبة تُصبح أولويّة الشُعوب الحفاظ على حياتها أوّلاً، وتأمين معيشتها ثانيًا. وإنطلاقًا من هذا الواقع، تحوّل إهتمام ال​لبنان​يّين الذين نزلوا إلى الشوارع إعتبارًا من 17 تشرين الأوّل الماضي، إحتجاجًا على الأوضاع العامة من مُختلف النواحي، ورفضًا لأغلبيّة القوى والأحزاب السياسيّة، إلى صحّتهم وصحّة عائلاتهم، وإلى سُبل تأمين قوتهم اليومي. ويُمكن القول إنّ وباء ​كورونا​ سمح بعودة الأحزاب السياسيّة بقُوّة إلى الحياة العامة في لبنان، في ظلّ إنكفاء تام لمن يُطلقون على أنفسهم لقب "الثوّار". فما هي الأسباب، وهل إنتهت "​الثورة​" إلى غير رجعة؟.

الأكيد أنّ الإحتجاجات الشعبيّة والتظاهرات الميدانيّة إختفت تمامًا عن مُختلف الساحات في لبنان، ليس بسبب إختلاف أولويّات الناس في هذه المرحلة الصعبة والدقيقة فحسب، وإنّما لأنّ التجمّعات مَمنوعة أيضًا. وبالتالي، غابت كل مطالب "الثوّار" وشعاراتهم، عن وسائل الإعلام، وتقدّمت أخبار وباء "كورونا"، مع الإبقاء على مساحة صغيرة ومحدودة للشؤون السياسيّة العامة. وخسارة المُطالبين بالتغيير في لبنان تعدّت هذا الإنكفاء، حيث نجحت الأحزاب السياسيّة المُختلفة في العودة إلى الشوارع بقُوّة، تحت شعار نجدة الناس ومُساعدتهم على تخطّي هذه المرحلة الصعبة. وليس بسرّ أنّ الأحزاب السياسيّة التي تتمتّع بقُدرات تنظيميّة كبيرة، والتي تملك أيضًا قُدرات ماليّة ولوجستيّة للتحرّك على الأرض، تفوّقت بشكل حاسم على جماعات الإحتجاج والتظاهر التي تفتقر لأيّ تنظيم والتي لا تتمتّع بقُدرات لوجستيّة تُذكر.

ومن بين الأمثلة على التحرّك الميداني الفاعل للأحزاب، أعدّ "​حزب الله​" الذي يتمتّع بإمكانات ماليّة ولوجستيّة كبيرة مُقارنة بباقي القوى السياسيّة المحليّة، خطّة مُتكاملة لمُساعدة الناس على مُواجهة كورونا. وهو خصّص فريقًا ضخمًا من الأطباء والمُسعفين والعاملين في المجال الصحّي يضم نحو 4500 شخص، ودرّب نحو 20000 شخص آخر، لمُساعدة الفريق الأوّل، بالتزامن مع إعداد بعض المُستشفيات والمراكز الطبيّة وتخصيص أماكن للحجر الصحّي، إضافة إلى مد يد المُساعدة لعائلات مُحتاجة، كلّ ذلك بالتنسيق مع ​البلديات​ ومع الجهات الرسميّة المُختلفة. وإستفاد "الحزب" من جهوزيّة ميدانيّة كانت مُتوفّرة أساسًا، في إطار إستعداداته الدائمة لأي تطوّرات عسكريّة مع ​إسرائيل​، وقام بتعديلها وبتطويرها بما يتناسب مع سُبل مُواجهة ومُكافحة إنتشار وباء كورونا.

"التيّار الوطني الحُرّ" شكّل من جهته فريق إستجابة وغرفة عمليّات، للتعامل مع تداعيات وباء كورونا، وقسّم العمل بين فرق طبّية مُتخصّصة بإجراء الفُحوصات الميدانيّة السريعة وبمُساعدة الحالات المُصابة وتلك المُشكوك بإصابتها، وفرق أخرى مُتخصّصة بالتعقيم، وفرق ثالثة للعمل اللوجستي ولتنظيم التبرّعات وتقديم المُساعدات العينيّة. ونظّم التيّار حملات تبرّع في لبنان وفي دول الإغتراب، لتمويل شراء مُستلزمات صحّية وطبيّة وتجهيزات منوّعة، بالتزامن مع فتحه باب التطوّع لمن يرغب بالمُساعدة على الأرض. كما نسّق "التيّار" مع البلديّات وبعض المُناصرين، لتأمين أماكن للحجر الصحّي في الكثير من المناطق، إلخ.

حزب "القوات اللبنانيّة" جنّد بدوره مسؤوليه الرسميّين من وزراء ونواب حاليّين وسابقين، ومسؤوليه وكوادره الحزبيّين، لتوفير مبان للحجر الصحّي. وتابع حزب القوات أوضاع المُستشفيات والمراكز الطبيّة والصحيّة في مناطق تواجده، عاملاً على تأمين ما ينقصها ضُمن الإمكانات المُتوفّرة، وقام-بالتنسيق مع البلديّات، بحملات لتعقيم الكثير من الشوارع والمباني. وركّز حزب "القوّات" الذي كان رئيسه ​سمير جعجع​ في طليعة الداعين إلى عزل لبنان عن الخارج، وفرض منع التجوال، للحدّ من إنتشار كورونا، على حملات التوعية والوقاية، حيث نظّم العديد من الحملات الميدانية في المناطق، لحثّ الناس على التقيّد بالإجراءات الضرورية لمواجهة كورونا.

ولم تقتصر الأنشطة الحزبيّة على الأحزاب الثلاثة المذكورة أعلاه، بل شملت مُختلف الأحزاب اللبنانيّة، إن المُصنّفة كبيرة أو متوسّطة أو صغيرة، كلّ منها بحسب إمكاناتها، لتعود هذه الأحزاب وتثبت قُدراتها الميدانيّة واللوجستيّة، وتواصلها مع الناس، في مُقابل غياب أيّ تحرّك فاعل يُذكر للهيئات وللجمعيّات التي كانت سبّاقة في قيادة الإحتجاجات الشعبيّة والتظاهرات المُعارضة للسُلطة ولمُختلف القوى السياسيّة والحزبيّة. وعلى الرغم من أنّ هذا الواقع لا يعني أنّ "الثورة" إنطفأت نهائيًا، لكنّها بالتأكيد في حال ركود شديدة في هذه المرحلة، وهي لن تعود إلى سابق عهدها قبل إنتصار لبنان والعالم على وباء كورونا. وخلال مرحلة المُواجهة الحالية، الكلمة الأعلى والأقوى هي للأحزاب السياسيّة التي تُثبت مرّة جديدة أنّها مُنظّمة ومُقتدرة إلى حدّ ما، وأنّها لن تكون لقمة سائغة بوجه من سيُحاول إلغاءها.

في الختام، وفي ظلّ إستمرار تفاقم أزمة كورونا في لبنان والعالم، وبالتالي إستمرار إجراءات التعبئة العامة في لبنان، فإنّ الأوضاع المَعيشيّة والحياتيّة ستُصبح ضاغطة أكثر فأكثر على اللبنانيّين خلال الأيام والأسابيع القليلة المُقبلة. والأكيد أنّ مُطلق أيّيد مُساعدة – أكانت من جانب السُلطات الرسميّة اللبنانية أم من جانب الأحزاب السياسيّة اللبنانيّة، ستكون محلّ ترحيب وتقدير من جانب المُواطنين الذين يعيشون حاليًا واقعًا مريرًا ويبحثون عن أيّ مُساعدة مُمكنة.