حين كانت تتعقد الامور في لبنان بالنسبة الى التمثيل الطائفي في المناصب الرسمية و​التعيينات​، غالباً ما كان رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ يردد المثل الشعبي القائل: "من حضر السوق باع واشترى". اليوم، تنطبق هذه المقولة بشكل تام في ما خصّ موضوع عودة المنتشرين اللبنانيين في الخارج الى لبنان، حيث كبرت كرة الثلج وتحوّلت، كعادة الامور في لبنان، من قضية انسانيّة الى سوق عرض وطلب سياسي.

لا يختلف اثنان على حق المواطن اللبناني، اياً كان، في العودة الى وطنه وهو امر نادى به الجميع منذ اللحظة الاولى لبدء تحوّل ​فيروس كورونا​ الى الخطرالذي سبق اعلانه وباء عالمياً شاملاً، ولا يرغب احد في تعيير اللبنانيين بأنهم قد تحولوا الى نازحين في اراضي الغير على غرار ما يعاني لبنان من وجود نازحين على ارضه من دول اخرى. واذا عرضنا الامور كما هي، فهذا لا يعني الدفاع عن الحكومة واستهداف غيرها، انما وضع الامور في نصابها لتكتمل الصورة ولا تبقى مجتزأة. ليس كورونا ابن ساعته، بل هو اخذ وقته في التفشي في كل انحاء العالم، واعطت الحكومة الوقت الكافي لكل من يرغب في العودة، وهي تعرّضت لانتقادات كبيرة وكثيرة من عدد من الجهّات والاطراف السياسية بسبب موقفها هذا لجهة التأخير في اغلاق المجال الجوي اللبناني. اليوم، وبعد استفحال الازمة، خرج بري ورئيس التيار الوطني الحرّ ​جبران باسيل​ والامين العام ل​حزب الله​ ​السيد حسن نصر الله​ ورئيس ​القوات اللبنانية​ سمير جعجع و​تيار المستقبل​ وغيرهم، ليقولوا انه يجب اعادة اللبنانيين، وهو الامر الصائب الذي يجب القيام به، ولكن...

هل منيجيب على سؤال استفاقة هؤلاء لإعادة المنتشرين بعد اكثر من اسبوعين على اعلان التعبئة العامة، وبعد ان تعالت الاصوات المطالبة بتأمين المستلزمات الصحية اللازمة وتحضير المستشفيات لاستيعاب اعداد المرضى التي تزيد باضطراد يوماً بعد آخر؟ وكيف ظهر فجأة امكان الاعلان عن النتيجة المخبريّة لفحص كورونا خلال ساعات قليلة، فيما اللبنانيون في لبنان يقبعون اياماً منتظرين النتيجة ويقلقون طوال هذه الفترة على حياتهم وحياة احبائهم؟.

ما هذه اللعبة السمجة التي تقضي بالتهديد بالاطاحة بالحكومة او تعليق عملها في هذا الظرف الدقيق والحاسم، اذا لم تلبّ رغبة هذا الزعيم السياسي او ذاك؟ أين روح المسؤولية التي كانت تتجلّى بأبهى حللها قبل تأليف الحكومة والدعوات المتكرّرة بوجوب الاسراع في تشكيلها انقاذاً للبنان؟ وهل بات البلديعيش اليوم رفاهية الاستغناء عن الحكومة وعن عملها؟ هل من يجيبنا من المسؤولين المعنيين المذكورين آنفاً وغيرهم، لماذا انتظروا طوال هذه الفترة لدعوة الحكومة الى وضع المنتشرين في الاعتبار والعمل على اعادتهم قبل تفاقم الامور؟ وكيف يمكن في ساعات قليلة وضع خطة كاملة متكاملة تتضمن:

-التواصل مع الدول الخارجية للسماح بهبوط الطائرات التي ستقل اللبنانيين على اراضيها أكانوا مصابين ام لا بالوباء؟.

-الشروع في تعزيز الطواقم الطبّية لمواكبة الطائرات واجراء الفحوصات، علماً ان الطاقم الطبي في لبنان يعاني من ضغوط جسديّة وحالة من التعب غير المسبوق باعتراف الجسم الطبي نفسه؟.

-تجهيز الاماكن الكافية لاستقبال المصابين وتأمين الرعاية الطبية اللازمة لهم، في حين ان المستشفيات لم تجهّز بعد للتعامل مع اعداد كبيرة من المرضى والمصابين؟ خصوصاً في ظلّ غياب ايّ رقم رسمي يحدد رقماً معروفاً لمعرفة كيفية التعاطي معه بما يلزم من جهد وعناية؟.

-ضمان سلامة هؤلاء العائدين وسلامة اهلهم في لبنان، فيما السياسيون انفسهم وقفوا متفرجين-دون ان يقدموا على المساعدة- على هيبة الدولة تسقط في المناطق جراء خرق قرارات التعبئة العامة، ومنها على سبيلالمثال لا الحصر، ما شهدته ​طرابلس​.

-تأمين ​مساعدات​ عينيّة وماديّة للعائدين المحتاجين، فيما لم تبدأ بعد عملية توزيع المساعدات على المقيمين، في ظل الازمة الاقتصادية والماليّة التي يعاني منها لبنان.

اضافة الى ذلك، يتبادر الى الذهن سؤال حول من كان ينادي بضرورة اعلان حالة الطوارىء بسرعة كبيرة.لو حصل هذا الامر بالفعل، هل كان سينتقد وسيحمّل ​الجيش اللبناني​ (كونه سيتولى ادارة الامور فيالبلاد في ظلّ ​حالة الطوارئ​) مسؤولية سلامة المنتشرين، وهل كان سيضغط عليه بالترهيب والترغيب لتنفيذ هذا الطلب دون اي دراسة او خطّة؟.

من الواضح ان السباق على اعادة المنتشرين يتخطّى بأشواط المسألة الانسانيّة، وهو بأفضل الاحوال سياسي. ومع التشديد على حقّ وضرورة عودة كل لبناني من الخارج يرغب في ذلك، لا بد من ان يترافق ذلك مع خطة واضحة ومدروسة تضمن سلامة العائدين وسلامة المقيمين على حد سواء، والا فإن وضع العائدين لن يكون افضل حالاً من بقائهم حيث كانوا.