من أهمّ النتائج التي أكدتها الحرب ​العالم​ية في مواجهة وباء ​كورونا​،أنها أسقطت ​منظومة​ السياسات التي قامت عليها الرأسمالية الريعيةالنيوليبرالية، التي سادت في العقدين الماضيين باعتبارها، حسب المتربّعين على عرشها والمنظرين لها، هي النظام ​الاقتصاد​ي والمالي الأمثل للبشرية، الذي يجب أن يسود… أبرز ما أسقطه كورونا في هذاالنمط من الرأسمالية النيوليبرالية، ركنين أساسيين..

الركن الأول، سقوط مفهوم التخلي عن دولة الرعاية الاجتماعيةومنظومتها الصحية، لمصلحة الشركات الخاصة، شركات التأمين، التي نبتت وانتشرت، كما ينبت وينتشر الفطر في فصل ​الشتاء​.. ففي ظلّ خصخصة كلّ الخدمات الاجتماعية والصحية، تدنّت مستويات الصحةالعامة للناس، وبات الحصول على أفضل خدمات صحية مقصوراً على من يملك القدرة المادية، فيما السواد الأعظم من الناس باتوا يفتقدون لهذه الخدمة الجيدة… لقد كشف وباء كورونا أنّ ​الدولة​ الأميركية، التي قادت النموذج النيوليبرالي، تعاني من نقص كبير في تأمين المستلزمات والأجهزة الطبية، لأنه تمّت خصخصة نظام الرعاية الصحية منذ عقود وبات العلاج متوفراً لمن يحصل على تأمين صحي خاص، وهو ما يصبّ في مصلحة شركات التأمين التي جنت بفعل ذلك الأرباح الخيالية، اماالمستشفيات فهي لا تستقبل إلا من يملك بطاقة التأمين أو المال،خصوصاً أنّ أغلب المستشفيات أصبحت ملكاً لشركات خاصة…

هكذا باتت ​أميركا​، التي تشتهر بأنها تحوي اهمّ مراكز طبية وأفضل المستشفيات في العالم، وتحوز على المركز الأول في ​العلوم​ والأبحاث الطبية، باتت عاجزة وغير قادرة على مواجهة أزمة كورونا.. لأنّ الأمر تُرك للقطاع الخاص، الذي أكد ما هو مؤكد، بانّ آخر ما يهمّه هو المجتمع.. لأنّ هدف هذا القطاع هو الربح ويتعامل مع الخدمة الطبية من هذا المنطلق.. الأمر الذي يعكس الوجه القبيح للرأسمالية النيوليبرالية..

الركن الثاني، اعتبار الاقتصاد الريعي، غير المنتج، هو البديل للاقتصادالحقيقي الذي يقوم على ​الزراعة​ و​الصناعة​، ولهذا جرت الإطاحة بالأنظمة الاقتصادية الإنتاجية في معظم دول العالم الثالث، تحت عناوين الإصلاحات الاقتصادية الهيكلة والشفافية، مما أدّى إلى سيادة ما سمّي بالاقتصاد الريعي المالي المتضخم في البنوك وبورصات الأسهم العالمية.. التي انهارت مع انتشار وباء كورونا.. مما كشف هشاشة هذاالنظام المالي لأنه لا يقوم على ركائز الإنتاج.. وإنما على ​تحقيق​ الأرباح السريعة وعمليات القنص والاستغلال..

أمام هذا السقوط المدوي لنظام النيوليبرالية، تبيّن انّ النظام القائم على الخدمة العامة، الصحية والاجتماعية، هو الذي أثبت نجاعته، وأنه القادر على توفير الخدمات لعامة الناس وقت الأزمات، وانه يملك البنية والجاهزية للقيام بذلك.. وانّ الدول التي ارتكزت سياساتها على خصخصة الخدمة العامة، وتخلت عنها لمصلحة ​القطاع الخاص​.. فقد فشلت فشلاً مدوياً، وهو ما ظهرت عليه ​الولايات المتحدة​، التي اضطر رئيسها ​دونالد ترامب​ الى التخلي عن استعلائه وعنجهيته وطلب المساعدة من ​الصين​ و​روسيا​، والتخفيف مكرهاً من الحصار الطبّي على ​إيران​، بعدأن حاول في البداية توظيف انتشار الوباء في الصين، لعزلها والنيل من قوتها الاقتصادية، وزيادة الحصار على إيران لحرمانها من استيراد ​المستلزمات الطبية​ لمواجهة انتشار الوباء.. بهدف إخضاعها للاملاءات الأميركية..

على أنّ الدرس المهمّ عربياً، وعلى الأخصّ ​لبنان​ياً، إنما هو ضرورة الاتعاظ مما حصل، وإعادة نظر جذرية بمنظومة السياسات النيوليبرالية الريعية التي جرى اعتمادها كوصفة أميركية سحريةللنهوض، فإذا بها تخلف لنا ​الفساد​ والانهيار الاقتصادي والمالي، ونظاماً صحياً عاماً ضعيفاً يفتقد القدرة على تقديم الخدمات الصحية العامة،لأنه تخلى عنها للقطاع الخاص، الذي كشف، كله، مستشفيات ومصارف،وأثرياء، انه لا يملك قيماً إنسانية مجتمعية تضامنية.. وانه عندما حشر في الزاوية نتيجة تفاقم ​الأزمة​ بفعل وباء كورونا، فإنه لم يقدم سوى فتاتاً، حاول استثماره، لمحاولة تبييض صفحته، التي تكشفت سوداويتها، من خلال الاستغلال البشع للناس، انْ كان عبر احتجاز أموالهم في ​المصارف​، أو من خلال استغلالهم عندما يلجأون للعلاج في ​المستشفيات الخاصة​..

إنّ الاستفادة من هذا الدرس إنما يستدعي ردّ الاعتبار لدور دولة الرعاية والحماية الاجتماعية، دولة الإنتاج، لا دولة الريع التي تعمل لخدمة القطاع الخاص، من مصارف ومستشفيات خاصة، وشركات نفط إلخ… يملكها كبار الأثرياء الذين يراكمون الثروات.. ولا يخجلون من أنفسهم عندما يمتنعون عن تقديم المساعدة للناس والدولة لمواجهة أخطر أزمة تواجه لبنان، والتي تفاقم منها حرب كورونا… انه جشع واستغلال الرأسمالي الريعي…