حسناً فعل رئيس الحكومة حسّان دياب بسحب بند ​التعيينات​ من طاولة ​مجلس الوزراء​، بمُعزَلٍ عن الخلفيّات والأسباب التي دفعته إلى ذلك.

قد يكون هذا "الاستنتاج" هو لسان حال الكثير من اللبنانيّين، الذين شهدوا خلال الأيام القليلة الماضية، على ما يمكن وصفها بـ"مهزلة" ​المحاصصة​ التي لم يجد الطاقم السياسيّ التقليديّ حَرَجاً في تصدّرها، في تحدٍّ لانتفاضة اللبنانيين، وفي عزّ محنة "​كورونا​".

هكذا، تحوّل سحب دياب بند التعيينات "إنجازاً" يُسجَّل له، بعدما كانت مثل هذه الخطوة على امتداد الحكومات المتعاقبة في السابق، بمثابة إعلان "عجزٍ"، يترجَم تلقائياً "شللاً" للحكومة، وربما "موتاً بطيئاً" لها، نتيجة عدم قدرتها على "الإنتاج".

لكن، ماذا بعد "الإنجاز"، في الواقع العمليّ للحكومة؟ هل يشكّل إعلاناً رسمياً لالتحاق الحكومة بسابقاتها لناحية "العجز والشلل"، أم "جرس إنذارٍ" سيتلقّفه عرّابو الحكومة ومؤيّدوها المفترضون؟ وهل يصمد دياب أمام ارتفاع عدد "أعدائه"، إن جاز التعبير؟!.

مُكرهٌ لا بطل؟!

قد تكون مفارقة مثيرة للانتباه أن يصبح ترحيل ملفٍّ، بحجم ونوع التعيينات، عن طاولة مجلس الوزراء، "إنجازاً" لرئيس الحكومة بكلّ معنى الكلمة، مع أنّه عملياً، يعني "إخفاق" الحكومة في أحد استحقاقاتها الأساسيّة، بل المفصليّة، والتي كان كثيرون ينتظرونها أصلاً للحكم عليها، بالإيجاب أو السلب.

وإذا كان "التهليل" لخطوة دياب بسحب بند التعيينات جاء بنتيجة الملابسات غير البريئة ولا العفوية التي أحاطت بها خلال الأيام الماضية، فإنّ كثيرين يعتبرون أنّ خطوة دياب، ولو بدت مثالية، جاءت وفق قاعدة "مُكرَهٌ أخاك لا بطل"، وبالتالي فهي لم تكن أكثر من "مَخرَج" نجح رئيس الحكومة في بلورته، تفادياً لسيناريو "كارثيّ" على الحكومة.

ويمكن الحديث في هذا السياق، عن مجموعةٍ من الأسباب والدوافع، التي فرضت على دياب، عدم السير بالتعيينات، كما كان مُعَدّاً لها، أو كما "طُبِخت" من الأطراف الحكوميّة، قد يكون أوّلها مرتبطاً بصيغة هذه التعيينات التي لا تنطبق عليها وصفة "التكنوقراط" التي يصرّ دياب نفسه على تصنيف حكومته من خلالها، متجاوزاً بذلك كلّ الأدلّة الحسّية والملموسة عن كونها حكومة سياسيّة بامتياز، ولو تستّرت برداء "التكنوقراط"، علماً أنّ الرجل كان أكثر من موفَّقٍ في هذا الجانب، من خلال قوله إنّ هذه التعيينات تخالف قناعاته ومنطلقاته وتوجّهاته.

بيد أنّ الاعتبار الأهمّ بلا شكّ، الذي فرض على دياب المنحى الذي أخذه، يتمثّل بفشل العرّابين في "رأب الصدع" الذي كاد يطيح بالحكومة عن بكرة أبيها، الأمر الذي تجلّى من خلال إصرار رئيس تيار "المردة" ​سليمان فرنجية​ مثلاً على شروطه وتهديداته، إلى درجة "مقاطعة" الوزيريْن المحسوبيْن عليه لجلسة مجلس الوزراء، ما دلّ بوضوح على عدم نجاح الوسطاء في "تليين" موقف الرجل، ودفعه للموافقة على أن تقتصر حصّته في هذه التعيينات على اسمٍ واحدٍ، في مقابل أن يتمّ "التعويض" عليه في استحقاقاتٍ أخرى.

سجلّ "الأعداء" يرتفع!

وإذا كان "التصدّع" الحكوميّ المفترض لعب دوراً أساسياً في ترجيح كفّة "ترحيل" بند التعيينات حتى إشعارٍ آخر، فإنّه بلا شكّ، وعلى أهمّيته، لم يكن العامل الوحيد المؤثّر على رئيس الحكومة، الذي يبدو أنّه خشي من اعتبارٍ آخر، يتعلّق بالبيئة السنّية، التي لم تتردّد في التصويب مجدّداً على الرجل من باب التعيينات المفترضة.

ومع أنّ هجوم بعض أقطاب الكتل السنية، والذي بلغ أوحه في بيان نادي رؤساء الحكومات السابقين، بعد انضمام رئيس "​تيار المستقبل​" ​سعد الحريري​ إليه، دان هؤلاء قبل أن يدين الحكومة، عبر الإيحاء بوجود "خطوط حمراء" يُمنَع المسّ بها، فإنّ هناك من يعتبر أنّ دياب شعر بأنّ "الضغط" عليه يرتفع، علماً أنّه يبذل منذ اليوم الأول لوصوله إلى السراي الحكوميّ، جهداً استثنائياً ليؤكد أنّه ليس رئيس حكومة "مواجهة"، بل إنّ طموحه ليس منافسة أسلافه على "الزعامة" وما يتفرّع عنها.

وفي وقتٍ يقول البعض إنّ ما يُسجَّل لدياب أيضاً في "المَخرج" الذي لجأ إليه، أنّه لم "يرضخ" للمحاذير التي رفع لواءَها رؤساء الحكومات السابقون، بدليل حديثه عن نيّته "إعادة هيكلة­­­ ​القطاع المصرفي​ وإعادة هيكلة ​مصرف لبنان​"، فإنّ ثمّة من يرى أنّ نتائج خطوة دياب لن تعود عليه بالنفع، بل إنّ تبعاتها المباشرة لن تتُرجَم سوى بارتفاع سجلّ "الأعداء" الذي يراكمه الرجل، منذ بدء التداول باسمه رئيساً للحكومة، خلفاً للحريري، خصوصاً أنّ "رهانه" على تحويل الكثير من معارضي أدائه ونهجه إلى داعميه له، انطلاقاً من موافقتهم على منحه "مهلة سماح"، تحقّق بالاتجاه المُعاكِس، عبر انتقال بعض الموالين له إلى صفوف المعارضة، مباشرةً أو مواربةً، وقبل انقضاء هذه المهلة.

ولعلّ الدليل الساطع على ذلك يتمثّل بتحوّل بعض "شركاء" دياب في الحكومة إلى "خصوم مفترضين" له، كما فعل فرنجية مثلاً، وكذلك رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ الذي يبدو منذ أكثر من أسبوع، كمن يبحث عن استغلال أيّ فرصة تسنح له للتصويب على دياب مباشرةً، وربما من خلفه على "التيار الوطني الحر" ورئيسه الوزير السابق ​جبران باسيل​، وهو ما فعله في مقاربة ملفّ إعادة المغتربين، وقبله "الكابيتال كونترول"، في سياسةٍ واصلها بعد جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، حين أعرب عن "عدم رضاه" على القرار المتعلّق بالكهرباء، علماً أنّ المفارقة التي تُسجَّل في هذا السياق تكمن في إصرار برّي على التعبير عن هذه المواقف في العَلَن، لا في الغرف المُغلقة، ما يضعه في مصاف القوى المعارِضة للحكومة، بل متقدّماً عليها في الكثير من الأحيان.

أين الترجمة؟!

حسناً فعل رئيس الحكومة بسحب بند التعيينات عن جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، وحسناً فعل أيضاً بقلبه الطاولة على طاقمٍ سياسيّ يبدو أنه لن ييأس من تكريس نهج "المحاصصة" مهما تطلّب الأمر، وأياً كان الثمن، والذي يبدو بعضه مستعداً لـ "تطيير" الحكومة، في حال لم يتحقّق له مُراده.

حسناً فعل دياب، ولكن ثمّة من يسأل عن جدوى طرح ملفّ التعيينات من الأصل في هذا التوقيت، فهل كان من "الضرورات القصوى" التي يجب أن تقتصر عليها مرحلة "التعبئة العامة"، أم أنّه اقتنع بأنّ الفرصة "مثاليّة" لتمرير مثل هذه التعيينات، من دون الخوف من حراكٍ معارضٍ لا تجيزه الظروف الصحّية؟

وأبعد من ذلك، كيف سيترجم دياب موقفه "الرياديّ"، وهو الذي بات مدركاً أنّ مواجهة حكومته تحدث من داخلها قبل الخارج، وأنّ كلّ طرفٍ فيها، مهما كبر أو صغر حجمه، يتصرّف وكأنّه المتحكّم بأمرها؟ وإزاء كلّ ذلك، إلى أيّ مدى يبقى "الرهان" على هذه الحكومة في مكانه، فيما "مهلة السماح" توشك على الاقتراب، وخططها الموعودة لم تبصر النور، شأنها شأن تعييناتها القضائية والمالية والمصرفية، "المجمّدة" مع وقف التنفيذ؟!.