أثبتت تجارب الأيام أنّ العديد من القضايا مهما عظمت تبدأ كبيرة، ثم ما تلبث أنْ يتراجع بريق وهجها، فكيف الحال في لبنان، الذي تتقلّب فيه التطوّرات والمواقف، ليس بين ليلة وضحاها، بل بين لحظة وأخرى.

من المهم جداً أخذ العِبَر من التجارب، والاستفادة من الخبرات، وفق معايير أكاديمية علمية، فكيف الحال بالواقع اللبناني، الذي تُسيّس فيه الأمور، طائفياً ومذهبياً ومناطقياً، ووفق المصالح الشخصية لهذا الزعيم أو ذاك.

الغالبية العظمى تتعامل مع القضايا والملفّات والمواضيع من منطلق مصالحها ومدى الاستفادة منها، حتى ضمن التوزيع الطائفي، فإنّ كُثُراً يُظلمون من نتائج ذلك، لأنّهم يكونون الأكفأ، لكن هذا المنصب يكون من نصيب طائفة دون غيرها، وليس المقياس الكفاءة، التي قد يتم في أحياناً عديدة التوفيق باختيار كفوئين لبعض المراكز، ما ينطبق عليه المثل القائل: "الشخص المُناسب في المكان المناسب".

من المُؤسف جداً تقاذف الكرة والاتهامات، وبينها ما يتعلّق بملفات قضائية، يجب أنْ يخضع فيها الجميع لمواد القانون اللبناني.

ما يجري هو اختيار مواد قانونية تتلاءم والمصالح الخاصة بالنظر إلى كل قضية، ما يُؤدي إلى تأزيم الأمور أكثر فأكثر، في ظل ظروف اقتصادية ضاغطة، تزيدها أزمة خطر فيروس "كورونا".

الأخطر أنْ تكون هناك دراية بإمكانية النفاذ والاستفادة من مواد قانونية، دون أنْ يتم سد الثغرات التي تؤدّي إلى قطع الطريق على التسلّل من خلالها.

لكن ما يجري في بعض الأحيان، تجاهل هذا التعديل، الذي يطال البعض بمفعول ذلك.

هذا ما جرى في ملف العميل عامر إلياس الفاخوري، الذي يستحق الإعدام على جرائم التعامل مع العدو والتعذيب والقتل العمد لمُناضلين، وجميعها جرائم ضد الإنسانية يجب ألا تسقط بمرور الزمن العشري، وألا يستفيد مَنْ يختار طريق خيانة الوطن من أي عفو لا عام ولا خاص، لأنّ العمالة جريمة وليست وجهة نظر!.

اقتراح النائب خريس

اكتشاف ثغرات قد ينفذ منها العميل الفاخوري، ظهرت سريعاً بعد توقيفه إثر التحقيق معه في دائرة التحقيق في الأمن العام، يوم الخميس في 12 أيلول/سبتمبر 2019، بناء لإشارة النيابة العامة العسكرية.

وقد تبنّى عضو "كتلة التنمية والتحرير النيابية" النائب علي خريس اقتراح "مركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب"، وتقدّم باقتراح تعديل قانون مُعاقبة التعذيب بتاريخ 17 أيلول/سبتمبر 2019، وجاء فيه:

"جانب رئيس مجلس النوّاب الأستاذ نبيه برّي المُحترم

اقتراح تعديل قانون مُعاقبة التعذيب

لقد كشفت عودة العميل عامر الفاخوري ثغرات في قانون مُعاقبة التعذيب رقم 65 تاريخ 20/10/2017، آملين من مجلسكم المُوقّر إعادة تعديل بعض مواد القانون، وهي:

تعديل المادة الأولى: تجريم التعذيب

حذف من الفقرة أ- "أثناء الاستقصاء والتحقيق الأوّلي والتحقيق القضائي والمُحاكمات وتنفيذ العقوبات".

ب- استبدال السنة بـ ست سنوات إلى عشر سنوات.

ج- حذف للمحكمة أنْ تُقر، والقول: الحق في

المادة 3: مرور الزمن

تعديل "إلا بعد خروج الضحية من السجن أو الاعتقال أو التوقيف إذا لم يتبعه سجن"، وتصبح: جريمة التعذيب لا تسقط بالتقادم

المادة 6: إضافة للقانون مفعول رجعي

15/9/2019

وتفضلوا بقبول فائق الاحترام

عضو كتلة التنمية والتحرير

النائب علي خريس".

عدم التعديل لحماية مُرتكبي جرائم

لكن لجنة الإدارة والعدل النيابية رفضت في الجلسة التي عقدتها برئاسة رئيسها النائب جورج عدوان، يوم الثلاثاء في 14 كانون الثاني/يناير 2020، إجراء التعديل، باعتبار التعذيب جريمة مُتمادية لا تسقط بالتقادم، قبل إقرار القانون، وتمَّ الإصرار على إبقاء المادة الثالثة.

يتّضح أنّ الهدف من عدم التعديل، هو حماية مُرتكبي جرائم التعذيب، التي استفاد منها العميل الفاخوري، وأمثاله.

هذا التعديل سيطال الكثير من السياسيين الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية من خطف وتعذيب وقتل وإخفاء، لكن مطلوب تعديل المواد القانونية، وإذا كان البعض من الكتل النيابية يخشى أنْ يطال زعماءها على الجرائم التي ارتُكِبَتْ سابقاً، فيمكن أنْ يتم تحديد شمولها بالجرائم المُرتبطة بالتعامل مع العدو والإرهاب.

ومن أجل ألا يكتوي أهالي الشهداء والأسرى والضحايا مُجدّداً، ليُقر تعديل القانون، سواء أكان بمفعول رجعي، أم منذ تاريخ نشره في الجريدة الرسمية.

الاستفادة من مرور الزمن

لقد استفاد العميل الفاخوري من مرور الزمن العشري في جميع الجرائم التي كان قد أدُّعِيَ فيها عليه، وفي طليعتها: قضية تصفية الأسيرين إبراهيم أبو عزّة وبلال السلمان خلال "انتفاضة الأسرى" في "مُعتقل الخيام"، بتاريخ 27 تشرين الثاني/نوفمبر 1989.

هذه القضية التي أمر فيها العميل الفاخوري العميل في شرطة المعتقل أنطوان يوسف الحايك بـ"زت" القنبلة الدخانية، التي أدّى انفجارها إلى استشهاد أبو عزّة والسلمان.

وقد صدر حكم في هذه القضية بحق الحايك من قِبل "المحكمة العسكرية الدائمة" في بيروت برئاسة العميد الركن ماهر صفي الدين، وعضوية المُستشار المدني القاضي فايز مطر، والمُستشارين العسكريين: العقيد الركن علي بحسون، العقيد الركن إحسان أبو شقرا والعقيد الركن إدمون فاضل، في الجلسة التي عقدتها بتاريخ 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2001، تحت رقم 6409/2001.

وقضت بعقوبة "الأشغال الشاقة لمدّة 10 سنوات وبإسقاط دعوى الحق العام عنه لجهة المادة 549 بمرور الزمن العشري".

وقد استأنف الحايك القرار لدى "محكمة التمييز العسكرية"، التي عقدت جلسة لها برئاسة القاضي طربيه رحمة، وعضوية المُستشارين العسكريين: العميد الركن البحري جورج معلوف، العميد الركن شارل الفرزلي، العميد الركن أمين حطيط والعقيد بيار حاكميه، بتاريخ 30 كانون الثاني/يناير 2003، تحت رقم 13/2003.

وقضى بـ"إسقاط الدعوى العامة عن الحايك لجهة الجنايتين المُنسوبتين إليه بمرور الزمن العشري" - وخالف العميد الركن حطيط، هيئة المحكمة بقرارها.

وأسقطت النيابة العامة العسكرية الحكم الغيابي الصادر عن "المحكمة العسكرية الدائمة" بحق العميل الفاخوري، بتاريخ 24 تموز/يوليو 1996 بجرم اتصال مع العدو الإسرائيلي وعملائه، في ضوء قرار "المحكمة العسكرية" التي أسقطت الحكم في آب/أغسطس 2018 لمرور الزمن العشري.

لكن ثبت أنّ العميل الفاخوري استمرَّ بالتواصل مع العدو ودخل إلى الأراضي الفلسطينية المُحتلّة بتاريخ 24 أيّار/مايو 2000 مع اندحار العدو الإسرائيلي، وغادر من هناك إلى الولايات المُتّحدة الأميركية بتاريخ 6 تموز/يوليو 2001. وهو أيضاً ما سقط بمرور الزمن العشري.

وبشأن حصول العميل الفاخوري على الجنسية الإسرائيلية، وهو الجرم الذي لا يسقط بالتقادم، فقد ادّعت قاضي التحقيق العسكري نجاة أبو شقرا عليه بهذا الجرم.

لكن بعد إحالته على المحكمة، أبرز وكلاء الدفاع عن العميل الفاخوري - ما يثبت من مُستندات - عن تقديمه طلب اللجوء في الولايات المُتحدة الأميركية، بعد وصله إليها في 6 تموز/يويليو 2001، وفق جنسيته اللبنانية، ما ينفي حصوله على الجنسية الإسرائيلية.

أما في ما يتعلق بقضية تعذيب الأسير علي عبدالله حمزة على يدَيْ العميل الفاخوري في "مُعتقل الخيام" ومن ثم إخفائه، فقد ادّعت القاضي أبو شقرا ضدّه بارتكابه جريمة ضد الإنسانية، وفق المُعاهدات الدولية، وفي طليعتها اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949، التي انضم إليها لبنان بتاريخ 10 نيسان/إبريل 1951، كما انضم إلى بروتوكوليها الإضافيين، بتاريخ 23 تموز/يوليو 1997، وهو ما لا يسقط بمرور الزمن.

لكن "المحكمة العسكرية الدائمة" برئاسة العميد الركن عبدالله استندت إلى ما يتعلّق بجرم الخطف وفق تقرير "هيومن رايتس ووتش" بتاريخ 27 تشرين الثاني/نوفمبر 1999، الذي أشار إلى أنّ "المُعتقل في سجن الخيام من العام 1985 ولغاية 1990 إبراهيم كلش، كان شاهداً على ظروف موت علي حمزة في العام 1986، وقال بأنّه عُرِّيَ من ثيابه في ليلةٍ باردةٍ ووُجِدَ ميتاً في الصباح التالي".

كذلك من جواب مُديرية المُخابرات في الجيش اللبناني رقم 1407/م/م/د/س تاريخ 11 آذار/مارس 2020، بناءً على تكليف المحكمة بتزويدها بالمعلومات عن علي عبدالله حمزة تمهيداً للبت بالدفوع الشكلية، حيث ورد بأنّه تتوافر في محفوظات مديرية المُخابرات المعلومات التالية حول القضية في حينه: "إنّ المُعتقل علي عبدالله حمزة توفي في العام 1985 داخل سجن الخيام من جرّاء تعرّضه للتعذيب من قِبل العملاء، وإنّه في 21/3/2006 استُدعِيَ إلى مُديرية المُخابرات العميلان السابقان فؤاد عبلا وفؤاد أبو سمرا حيث نفيا مُشاركتهما بتعذيب حمزة حتى الموت أو معرفتهما بمَنْ أقدم على ذلك أو مكان دفن جثته".

وأيضاً من جواب المُديرية العامة للأمن العام رقم 8835/ س تاريخ 11/3/2020، إنّ المعلومات المُتوافرة لديها تُفيد بأنّ "علي حمزة تمَّ اعتقاله عام 1986 من قِبل العميل الأمني في "ميليشيا لحد" حسين عبد النبي، وتمَّ نقله إلى "مُعتقل الخيام"، وبعد فترة أبلغ بعض المعتقلين المُفرج عنهم ذويه بأنّ ابنهم علي حمزة قد استشهد بعد تعرّضه للتعذيب وربطه على عمود في ساحة المُعتقل".

يتبيّن من كل ما تقدّم أنّ المُعتقل علي حمزة قد استشهد داخل المُعتقل في حينه، ونُقِلَ جثمانه إلى مكان مجهول، وبالتالي تبدأ مدّة مرور الزمن على جرم المادة 569 عقوبات المنسوب الى الُمتهم من هذا التاريخ، وقد مرَّ حتى تاريخ المُلاحقة ما يتجاوز الثلاثين عاماً، ويقتضي بالتالي إعلان سقوط دعوى الحق العام بالنسبة الى جرم المادة 569 عقوبات لمرور الزمن العشري.

وفي ضوء كل ما تقدّم، يقتضي قبول الدفع الشكلي لمرور الزمن العشري بالنسبة إلى الجرائم المُسندة إلى المُتهم وإعلان سقوط دعوى الحق العام.

وقرّرت المحكمة بالإجماع "قبول الدفع بمرور الزمن وكف التعقّبات عن المُتهم عامر إلياس الفاخوري بالنسبة إلى جرائم المواد 549 و201/549 عقوبات لسقوط دعوى الحق العام بمرور الزمن العشري سنداً للمادة 10 أ.م.ج. وإطلاق سراحه فوراً ما لم يكن محكوماً أو موقوفاً بداعٍ آخر".