تحت عنوان "ربط النزاع"، عاش "​حزب الله​" و"​تيار المستقبل​" على مدى سنوات، ما يمكن توصيفه بأنّه "شهر عسل" حقيقيّ، تحوّل فيه الخصمان التقليديّان إلى "حليفيْن" بشكلٍ أو بآخر، مع تفهّم كلٍّ منهما لـ "خصوصيّة" الآخر واعتباراته وحساباته.

وصل "شهر العسل" هذا إلى ذروته خلال مرحلة "المساكنة الحكوميّة" التي جمعت الجانبيْن، والتي بات فيها وزراء "الحزب" الداعمين الأوائل للحريري، بل ربما "شبكة الأمان" التي كان يستند إليها في "معاركه" الافتراضيّة داخل الحكومة وخارجها.

لم يتغيّر هذا الواقع بعد ​استقالة الحريري​ "الأحاديّة"، وصولاً حتى التوافق على تسمية حسّان دياب خلفاً له، خصوصاً في ضوء التسريبات الكثيفة عن جهود "ماراثونية" بذلها "الحزب" لإقناع "الشيخ سعد" بالعودة أولاً، أو "مباركة" خليفته، بالحدّ الأدنى، ثانياً.

في الأيام الأخيرة، بدا أنّ شيئاً ما اختلف على خطّ هذه العلاقة، ترجِم بتسريباتٍ إعلاميّةٍ عن "تحرّر" كلّ من الطرفين من "عبء" الآخر، فمَن "تحرّر" مِمَّن؟ وهل فعلاً وصلت مرحلة "ربط النزاع" إلى خواتيمها، كما يحلو للبعض القول؟!.

علاقةٌ إشكاليّة...

ليس خافياً على أحد بأنّ العلاقة بين "حزب الله" و"تيار المستقبل" شهدت، على مرّ تاريخها الحديث، وخصوصاً بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق ​رفيق الحريري​، الكثير من الأخذ والردّ، بل ربما "الانقلابات"، وهو ما تجلّى خصوصاً بالاتهامات التي وُجّهت لـ "الحزب" بالتورّط في الاغتيال، ومقولة الحريري الشهيرة بعد ذلك، إنّه لا يمكن أن يجلس مع "قتلة" والده على طاولةٍ حكوميّةٍ واحد.

لكنّ الرجل سرعان ما تراجع عن هذه المقولة، وجلس على طاولةٍ واحدةٍ مع وزراء "الحزب"، ومن بينهم قياديّون حزبيّون من الدرجة الأولى، وهو ما برّره بشعار "ربط النزاع" الذي رفع لواءه، معطوفاً على تخفيف "الاحتقان"،وذلك من بوابة الحرص على المصلحة العامة، وتفادي "الانقسام"، ومنعاً لدخول لبنان في متاهات ودهاليز ما يُعرَف بـ"الصراع السنّي-الشيعي"، والتي قد تكون تبعاتها كارثيّة، في أحسن الأحوال.

هذه "التبريرات" وجدت ضالتها "ظاهرياً" من خلال العديد من الخطوات "الشكليّة" بين الجانبيْن، حيث كان "حزب الله" يمتنع مثلاً عن تسمية الحريري ل​رئاسة الحكومة​، لكن بعد "ضمان" فوزه بأريحيّة، وبأصوات أقرب حلفائه إليه، فيما كان "الشيخ سعد" مثلاً يمتنع عن دعوته للمشاركة في ذكرى اغتيال والده، في موقفٍ "رمزيّ" ليس إلا، علماً أنّه كان يحرص على تجنّب "التصعيد" معه حتى في هذه المناسبة، وثمّة من يقول إنّ الجانبيْن كانا "متفاهميْن" على تقبّل بعض الانتقادات التي تُوجَّه في بعض الأحيان، من باب الاستجابة لـ "ما يطلبه الجمهور".

بيد أنّ كلّ هذه الخطوات "الشكليّة" لم تنجح في حجب الأضواء عن حقيقة العلاقة التي باتت، في زمن الحكومة السابقة على سبيل المثال، "في أفضل أحوالها"، بشهادة الطرفيْن، لدرجة أنّ "الحزب" لم يكن يتوانى عن التحوّل إلى "وسيط" لحلّ الإشكالات التي كانت تنشب بين الحريري وأيّ من المكوّنات الحكوميّة، ولا سيما "​التيار الوطني الحر​"، علماً أنّ وزيرة الداخلية السابقة ريّا الحسن مثلاً كانت واضحة في "تقييمها" للمرحلة، عندما وضعت "حزب الله" في أسفل سلّم معرقلي مهمّة الحريري، ليس فقط خلف "التيار الوطني الحر"، بل بعد "حلفاء" الرجل المفترضين، وفي مقدّمهم "​القوات اللبنانية​" و"​الحزب التقدمي الاشتراكي​".

من "تحرَّر" مِمّن؟!

اليوم، ثمّة من يرى أنّ العلاقة "الإشكاليّة" بين الحريري و"حزب الله" دخلت مطبّاً جديداً، وهو ما قد يكون أمراً بديهياً بموجب انتهاء مرحلة "المساكنة الحكوميّة"، وما كانت تستوجبه من "ربط نزاع"، ولو بصورة مؤقتة، وبالتالي تموضع كلّ من الطرفيْن في خندقٍ "مواجهٍ" للآخر، باعتبار أنّ "الحزب" يشكّل أحد العرّابين الأساسيّين لحكومة حسّان دياب، التي يسعى الحريري لقيادة جبهة "معارضتها"، بشكلٍ أو بآخر.

من هنا، اختار بعض المحسوبين على "حزب الله" الترويج لنظريّة "تحرّر" الأخير من "الشيخ سعد"، انطلاقاً من التهديد الأخير لرئيس الحكومة السابق بالتصعيد، وصولاً حتى استقالة كتلته البرلمانية. وفي هذا السياق، يتوقف هؤلاء عند "مفارقة" عدم الالتفات من جانب "حزب الله" لهذا الوعيد من قريبٍ أو بعيدٍ، وكأنّ لسان حاله يقول "ليفعل ما يشاء"، علماً أنّ هناك من قلّل من شأن وقيمة هذه الخطوة، التي لا يمكن أن تقدّم أو تؤخّر شيئاً في المعادلة، باعتبار أنّ الاستقالة من البرلمان لن تؤذي إلا صاحبها، كونها لا تؤدّي لا لحلّ البرلمان، ولا لقلب الطاولة على أحد، حتى أنّ فوائدها "الشعبوية"، وإن وُجِدت، ستكون محدودة، خصوصاً أنّها لم تأتِ استجابةً للاحتجاجات الشعبيّة، بقدر ما جاءت اعتراضاً على ما يعتبره "إقصاءً" له في ​التعيينات​.

وإذا كان الحريري صرف النظر عن "تصعيده" بعد إرجاء التعيينات، على أن يُبنى على قرارات الحكومة مقتضاها في الأيام المقبلة، ثمّة من يقول إنّ "الحزب" حرص على توجيه رسالةٍ من هذا النوع إلى الحريري، استباقاً لأيّ خطواتٍ يمكن أن يتّخذها، باعتبار أنّ النهج السابق القائم على "مراعاة الخواطر" لن يتكرّر هذه المرّة، بل إنّ "الحزب" الذي بقي مصرّاً حتى اللحظة الأخيرة على إعادة تسمية الحريري، مهما تطلّب الأمر، بات مقتنعاً بالتجربة الحكوميّة الجديدة التي يقودها دياب، بل يعتقد أنّ الأخير أثبت "جدارته" في هذه المرحلة، على رغم المعوقّات التي لا تزال تحول دون إحرازه أيّ تقدّم فعليّ.

وفي حين لا يبدو غريباً أن يردّ "المستقبليّون" هذه الرسالة، "من دون الشكر"، وصولاً إلى حدّ التأكيد بأنّ الحريري هو الذي تحرّر من العبء الذي كانت تمثّله العلاقة مع "حزب الله" بالنسبة إليه، شعبياً بالدرجة الأولى، فضلاً عن كونه هو "المُبادِر" إلى ذلك حين قدّم استقالته، من دون التنسيق مع أحد، فإنّ الخشية تبقى لدى الجانبيْن من إعادة عقارب الساعة بينهما إلى الوراء، ولا سيما إلى مرحلة "النزاع" الذي لن يتأخر في أخذ أشكالٍ طائفيّة ومذهبيّة، لن تكون في صالح اللبنانيين عموماً، ولا "حزب الله" و"المستقبل" وبيئتهما الحاضنتين خصوصاً، فضلاً عن أنّ الوقت ليس مناسباً للغوص فيها، في ضوء الأزمات "المصيريّة" التي تتصدّر المواجهة، صحّياً ومالياً واجتماعياً، على حدّ سواء.

"المساكنة" مستمرّة؟!

في السياسة، قد يكون من المبالغة بمكان، اعتماد مصطلح "التحرُّر" للحديث عن العلاقة بين فريقيْن، خصوصاً إذا كانا بحجم "حزب الله" و"تيار المستقبل".

ومع أنّ المحسوبين على الفريقيْن تبنّيا "التوصيف" بشكلٍ أو بآخر خلال الساعات الماضية، فإنّ أحداً لم يتنبّه أنّ بين طيّاته "إدانةً" للحزبين، اللذين بدوا وكأنّ "مساكنتهما" كانت اضطرارية، في سبيل البقاء في "جنّة الحكم"، وكأنّ الأمر كان من مقتضيات "الكرسيّ"، ليس إلا.

لكن، وبعيداً عن الغوص في سجال "التحرُّر" هذا، ثمّة من يجزم بأنّ "المساكنة" مستمرّة بينهما، ولو نسبياً، لأنّ "حزب الله" يدرك أنّه لا يستطيع إلغاء "الحريريّة السياسيّة"، مهما أسرّ له الحلفاء، ولأنّ الحريري متيقّن أنّ عودته إلى السراي يجب أن تحظى بـ "مباركة" الحزب، ولو كان "يضمن" دعم الكثير من حلفاء الأخير...