منذ ما قبل إعلان "التعبئة العامة" في كلّ لبنان من جانب ​الحكومة​، على وقع تفشّي فيروس "كورونا" في الأراضي اللبنانية، ومجلس النواب في "إجازةٍ قسريّة"، لا يجتمع لا على مستوى هيئته العامة والتشريعيّة، ولا حتى على مستوى اللجان محدودة العدد.

ومع أنّ رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ دعا منذ أسبوعين، إلى استئناف العمل التشريعي "عن بُعد"، باستخدام تقنيّة الفيديو، إلا أنّ هذا الإعلان بقي "مجمّداً" على خطّ التنفيذ، علماً أنّ الأمر سيُطرَح أخيراً على هيئة مكتب المجلس الذي يفترض أن يجتمع الثلاثاء المقبل.

ولأنّ "الجمود" البرلمانيّ والتشريعيّ في عزّ الأزمة والمحنة، قوبِل بنشاطٍ حكوميّ منقطع النظير، ولو بقي محدود الفعاليّة، ثمّة من سأل، هل ما يسري على النواب لا يسري على الوزراء؟ وإلى متى يمكن أن تمتدّ "العطلة القسريّة" للبرلمان؟.

وأبعد من ذلك، أليست القوانين التي يفترض أن تكون مطروحة على الطاولة التشريعيّة، من "الضرورات القصوى"، خصوصاً أنّ قدرة اللبنانيين على "الصمود"، في ظلّ هذه الأزمة تكاد تنفد؟!.

دعوة "دعائيّة"؟!

صحيحٌ أنّ دعوة رئيس مجلس النواب إلى استئناف العمل التشريعيّ باستخدام تقنيّة الفيديو، قوبلت بترحيبٍ من قبل معظم العاملين في الشأن العام، باعتبار أنّ من غير المنطقيّ مطالبة الموظّفين في مختلف الشركات باستئناف عملهم، ولو "عن بُعد"، بل إدخال مفهوم "التعليم عن بُعد"، من دون حلّ معضلة غياب ​الإنترنت​ عن بعض منازل ​الطلاب​، نتيجة ظروفهم الاقتصاديّة والمعيشيّة ربما، من دون أن تسري هذه القاعدة على "ممثلي الشعب"، الذي نالوا "شبه إجازةٍ" كاملة، سوى عن بعض "التغريدات" الافتراضيّة، التي لا تقدّم ولا تؤخّر، بل قد تؤجّج الأجواء، في الكثير من الأحيان.

لكن، مع ذلك، بقيت هذه الدعوة "دعائية" إلى حدّ كبير، من دون ترجمتها بخطواتٍ عمليّةٍ على أرض الواقع، سوى باجتماعٍ لهيئة مكتب المجلس، تأخّر كثيراً عن موعده، وهو الذي يفترض أن يلتئم الأسبوع المقبل، علماً أنّ "الآمال" المعقودة عليه لا تبدو كبيرة، أولاً لجهة التوقيت، الواقع في الوسط بين أسبوعي الآلام، ما "يعقّد" فرصة الاتّفاق على أيّ اجتماع قبل انقضاء ​عيد الفصح​ لدى ​الطوائف​ التي تتبع التقويمين الشرقي والغربي، على حدّ سواء، وثانياً لجهة غياب "التوافق"، أقلّه حتى الآن، بين المكوّنات السياسية على اختلافها، لا على المشاريع التي يفترض أن تُمنَح الأولويّة في هذه الفترة، ولا على "الإخراج" المناسب للجلسات، سواء في قاعة البرلمان أو عبر الإنترنت.

ولعلّ ما يعزّز الاعتقاد بـ"دعائية" الإعلان عن الجلسة "الافتراضيّة" للبرلمان، غياب أيّ مؤشّراتٍ ملموسةٍ للعمل التشريعيّ، في ظلّ انقطاع اللجان البرلمانية عن الالتئام حتى اليوم، حضورياً أو افتراضياً، طيلة هذه الفترة، علماً أنّ مثل هذه الاجتماعات، ولا سيما للجان الأساسيّة، يفترض أن يكون أمراً "بديهياً"، وليس معقّداً على غرار اجتماع الهيئة العامة، أولاً لناحية حجم الحضور غير الكبير، ما يجعل من اجتماع اللجنة أقرب إلى اجتماع مجلس إدارة أيّ شركة على سبيل المثال، أو حتى اجتماع الأصدقاء، الذي بات أشبه بـ"الظاهرة" بتقنيّة الفيديو في زمن "كورونا".

معوّقات قانونيّة ولوجستيّة

وإذا كانت المقارنة بين الحكومة والبرلمان تصبّ في صالح الأولى، التي تتعرّض، على رغم كلّ ذلك، إلى "التصويب المباشر" من قبل الكثير من ​الكتل النيابية​، التي باتت حتى "تستكثر" شكر أحد الوزراء على جهوده في مكافحة "كورونا"، لأنّه لا يقوم سوى بـ"واجبه"، وهو ما لا تقوم به هي، فإنّ هذه المقارنة تبقى برأي كثيرين "ظالمة"، خصوصاً أنّ ما هو مُتاحٌ للحكومة ليس مُتاحاً للبرلمان، أولاً لناحية عدد أعضائها المحدود، والذي لا يُقارَن مع عدد أعضاء البرلمان، ما يجعل مهمّة تأمين "التباعد الاجتماعي" بينهم مثلاً، ضمن الإجراءات الاحترازيّة، أمراً شبه مستحيل.

انطلاقاً من ذلك، ثمّة من يتحدّث عن معوّقاتٍ لوجستيّةٍ تحول دون انعقاد البرلمان، ولو توافرت "الإرادة"، أولاً لأنّ أيّ اجتماعٍ تقليديّ له في قاعته العامة، كما كان يحصل في السابق، يكاد يكون "انتحاراً جماعياً"، لأنّه لا يمكن أن يلبّي الحدّ الأدنى من إرشادات وتوصيات الخبراء والأطباء للوقاية من "كورونا"، نظراً لاستحالة تطبيق "التباعد الاجتماعي"، ولو أنّ البعض يقترح توزيع النواب مثلاً على أكثر من قاعة، باستخدام الطبقة العُليا لمقاعد المجلس، والتي تُخصَّص في العادة للضيوف والصحافيّين، وثانيا لأنّ أيّ اجتماعٍ "افتراضيّ" يجب أن يسبقه تمهيد الأرضيّة له، لناحية غياب هذا المفهوم عن نسبةٍ كبيرةٍ من النواب، ولا سيما الكبار في السنّ، أو حتى لجهة الاتفاق على كيفيّة إدارة مثل هذا الاجتماع، ولو أنّ "قمماً" لقادة بعض الدول عقدت في الأيام الأخيرة، على مستوى تقنيّة الفيديو، ولم تشهد أيّ إشكاليّاتٍ من هذا النوع.

وإلى المعوّقات اللوجستية، ثمّة معوّقات قانونيّةلا تزال، بحسب الخبراء الدستوريّين، تحول دون عقد مثل هذا الاجتماع، تختصرها المادة السادسة والعشرون من الدستور، إذ تنصّ على أنّ "بيروت هي مركز الحكومة ومجلس النواب، وبالتالي أيّ اجتماع لمجلس النواب خارج العاصمة بيروت يُعتبر دستورياً باطلاً"، في حين ينصّ النظام الداخلي لمجلس النواب على أنّه "لا تُفتَح جلسة المجلس، إلا بحضور الأغلبية من عدد أعضائه، ولا يجوز التصويت إلا عند توافر النصاب في قاعة الاجتماع".

وإن دلّت هذه المواد على شيء، وفقاً للخبراء، فهو على حصر الاجتماعات بقاعةٍ محدَّدة، وبموقعٍ جغرافيّ محدَّد هو العاصمة بيروت، ما يعني أنّ أيّ اجتماعٍ "عن بُعد"، وبالفضاء "الافتراضيّ"، قد يكون باطلاً دستورياً، ولو أنّ "الاجتهادات" يمكن أن تطيح بهذه المعايير والاعتبارات، خصوصاً أنّ الظروف الاستثنائية التي يشهدها العالم كلّه اليوم يفترض أن تتيح تشريعات "استثنائية"، علماً أنّ ​البرلمان اللبناني​ سبق أن خالف الكثير من القوانين، كما حصل مثلاً في "نصاب" جلسات الثقة الأخيرة، من دون أن يرفّ له جفن.

ما يريده الشعب...

في سياق تحقيقٍ صحافيّ أجري أخيراً مع عددٍ من النواب حول كيفيّة تمضية أوقاتهم في مرحلة "الحجر"، "زايد" العديد على بعضهم بعضاً، بالحديث عن "جهودٍ" يبذلونها في متابعة أعمالهم من منازلهم، في حين كان أحد النواب الشباب أكثرهم "صدقاً" ربما، حين قال إنّه يمضي وقته بمشاهدة الأفلام والمسلسلات.

ولكن، وبعيداً عن الصدق والشفافيّة في أقوال هؤلاء، هل هذا هو ما يطلبه الشعب من ممثّليه في هذه الأزمة غير المسبوقة؟ هل أعطاهم فعلاً "إجازة مفتوحة" لتمضية أوقاتهم من دون حسيب أو رقيب؟ وهل يعتقد بعض النواب أنّ تغريداتهم "التحريضيّة" في الكثير من الأحيان تكفيهم للبقاء في الساحة؟.

بالتأكيد، ليس المطلوب من البرلمان أن يعرّض نفسه للخطر المباشر الناتج عن "كورونا" وغيرها، ولكنّ المطلوب، بالحدّ الأدنى، أن يثبت وجوده، وهو ما يبقى مُتاحاً بطبيعة الحال، ولو افتراضياً، حتى لو كانت نتيجة ذلك لا تتخطّى "رفع العتب" الذي يتفنّن به سياسيّو لبنان على وجه التحديد...