قبل ثلاث سنوات، حطّ وزير الإعلام السابق ​ملحم الرياشي​، المنتمي إلى "​القوات اللبنانية​"، في ​الضاحية الجنوبية​ لبيروت، في زيارةٍ وُصفت بـ"الاستثنائيّة"، وأتت تلبيةً لدعوةٍ رسميّةٍ من "​حزب الله​"، ولكن في إطار نشاطٍ إعلاميّ نظّمته العلاقات الإعلاميّة في "الحزب".

يومها، أعطيت الزيارة أكثر من حجمها، إذ قوبلت بالكثير من التحليلات أو الاستنتاجات، التي تلاقت على أنّ الرياشي أراد من خلالها شقّ طريق "القوات" إلى عرين "حزب الله"، وبالتالي فتح صفحة جديدة بين الحزبين، اللذين تربطهما خصومة يمكن اعتبارها تاريخيّة.

لكنّ حدود الزيارة انتهت هنا. تعمّد "حزب الله" ترسيم حدود العلاقة مع "القوات"، نيابياً ووزارياً، ووفق الاختصاصات، حاجباً عنها أيّ أبعادٍ أو دلالاتٍ سياسيّة، أمرٌ سرعان ما تُرجم بـ"التراشق" الإعلاميّ والسياسيّ بين الجانبين، والذي لم ينتهِ فصولاً.

خلال الأسبوع الماضي، برزت "بقعة ضوء" جديدة على خطّ العلاقة، ولو بعنوانٍ صحّي، تمثّلت بزيارة وزير الصحّة ​حمد حسن​ إلى قلب بشرّي، معطوفة على ما سبقها من "تنسيقٍ" بينه وبين فاعليات المدينة، وعلى رأسهم النائب ​ستريدا جعجع​، فهل قرّبت "كورونا" المسافات؟ وكيف يمكن ترجمة ذلك في السياسة؟!.

فعلت فعلها!

فَعَلت "كورونا" فِعلها. قد يختصر هذا التعبير المشهد الذي طبعته زيارة وزير الصحّة، المحسوب على "حزب الله"، إلى بشرّي، عرين "القوات اللبنانية"، بعيداً عن أيّ دلالات سياسيّة حاول الكثيرون استغلالها، ولو أنّ هذه الزيارة جاءت بعد "فتورٍ" بين الجانبين، سبّبته "كورونا" نفسها، يوم لوّح رئيس حزب "القوات" ​سمير جعجع​ بمقاضاته، قبيل بدء سريان "التعبئة العامة".

وإذا كان وزير الصحّة تغاضى يومها عن هذا الكلام، ولم يعلّق عليه من قريبٍ أو من بعيد، فإنّ العارفين بأدبيّاته والمتابعون لعمله منذ تفشّي "كورونا" في لبنان، يقولون إنّ تعاطيه مع الملفّ بالكامل، ومن ضمنه زيارته إلى بشرّي الأسبوع الماضي، ينطلق من حساباتٍ "صحّية" بالدرجة الأولى، بعيداً عن كلّ أنواع الاصطفافات السياسية، التي يفترض أن تكون قد ولّت، أقلّه بانتظار انتهاء المحنة الصحية التي تستهدف كلّ اللبنانيين، من دون تمييزٍ بينهم على أساس الانتماء السياسيّ.

ومن هذه الزاوية بالتحديد، يقرأ هؤلاء الزيارة التي قام بها وزير الصحّة إلى بشرّي الأسبوع الماضي، ليس فقط لكونها جاءت في سياق جولةٍ مناطقيّة قادت الوزير المعنيّ إلى العديد من المناطق الشمالية المشمولة بخطر "كورونا"، ولكن قبل ذلك لكون أرقام بشرّي بالتحديد، التي تصاعدت بشكلٍ دراماتيكيّ خلال أيامٍ قليلةٍ، شكّلت "جرس إنذار" فرض على كلّ المعنيّين التدخّل، تفادياً لأيّ "كارثةٍ" صحّية، لا يزال لبنان يعمل على منع وقوعها، وهو ما أدّى لاحقاً إلى اتّخاذ القرار بـ"عزل" بشرّي، بشكلٍ أو بآخر، وبدفعٍ من فاعليّاتها البلديّة بالدرجة الأولى.

ولعلّ السياسة دخلت على الخط، من هذا الباب تحديداً، عندما ارتأى وزير الصحّة، التواصل مع النائب ستريدا جعجع مباشرةً، لتنسيق الخطوات الواجبة لتدارك ما هو أسوأ، وهو الاتصال الذي كشفت عنه جعجع شخصياً، رداً على بعض التسريبات الصحافية غير الدقيقة، والتي تناولت الموضوع ببعض الاستنسابيّة المغمَّسة بالسياسة، وفق القراءة "القواتية"، علماً أنّ حسن فاتحها خلال هذا الاتصال، برأيه حول الاتجاه إلى "العزل"، ووافقته الرأي، الأمر الذي مهّد لترجمة "الاتفاق" بخطواتٍ عمليّة على الأرض.

ماذا عن السياسة؟

فعلت "كورونا" فعلها، وقرّبت المسافات بين "القوات" و"حزب الله". قد يكون ذلك صحيحاً، باعتبار أنّ أيّ اتصالاتٍ "ودّية" بين الجانبين، كذلك الذي جمع حسن وجعجع، لم تُرصَد منذ سنوات، وربما في تاريخ العلاقة الثنائيّة، وباعتبار أنّ حضور وزيرٍ محسوبٍ على "حزب الله" في عرين "القوات"، شكّل "سابقة" لم يسبق لها مثيل.

لكن، هل يعني ذلك تقريباً للمسافات في السياسة بين الجانبين؟ قد تكون الإجابة بالنفي هي الأقرب للمنطق، باعتبار أنّ توظيف ما حصل في السياسة، يبدو، في أحسن الأحوال، تكراراً لـ"الوهم" نفسه الذي وقع به كثيرون يوم وطأت قدما الوزير "القواتي" ملحم الرياشي أرض الضاحية الجنوبيّة لبيروت، و"استرسل" البعض في الحديث عن صفحةٍ جديدةٍ، لم يُكتَب لها أن تبصر النور.

وتشير المُعطيات المتوافرة إلى أنّ قيادتي "القوات" و"حزب الله" أصلاً متّفقة على عدم إعطاء زيارة وزير الصحّة إلى بشرّي أكثر من حجمها، إذ لم يصدر عن أيّ من المسؤولين الحزبيين، لدى الطرفين، ما يوحي بأيّ "تغييرٍ" على هذا الخطّ، علماً أنّ لدى كلّ منهما عتباً على الآخر، في مقاربة ملفّ "كورونا" نفسه، فـ "حزب الله" مثلاً لم يَنسَ ما يصفه بـ "الاستغلال القواتي" للأزمة الصحّية، للتصويب المباشر على ​الحكومة​، ومن خلالها على وزير الصحّة في البداية، وتصوير إيران وكأنّها "المصدر" الوحيد للوباء، وهو الأمر الذي نفته الوقائع المثبتة في وقتٍ لاحق.

وفي المقابل، فإنّ "القوات" لا تعفي "حزب الله"، ولا سيما عبر جمهوره، وكذلك من يُعتبَرون "النخبة" في بيئته الحاضنة، من مسؤولية "الكيديّة السياسيّة" في التعامل، والذي وصل إلى حدّ "الشماتة" في الكثير من الأحيان، وهو ما برز في طريقة مقاربة الوضع الصحّي في بشري، وتصويرها وكأنّها "بؤرة انتشار" المرض، على رغم أنّ الأمر ليس عيباً في أيّ شكلٍ من الأشكال، علماً أنّ ذلك أتى بعد جولاتٍ من "الشماتة" توجت خصوصاً ليلة إعلان الوزيرة السابقة مي شدياق إصابتها بـ "كورونا"، فبدل أن تتمّ تحيّتها على إقدامها على الأمر، ما ينسجم مع مبادرات "التوعية المجتمعية" المطلوبة في مثل هذه الأوضاع، شُنّت عليها حملاتٌ ارتقت لمستوى "الإهانة" في بعض الأحيان، إذ اتفق قائلوها، وجلّهم من الخطّ المحسوب على "الحزب"، على إدانة المرأة، وصولاً إلى قول أحدهم أنّ "الفيروس هو الذي أصيب بشدياق"، لا العكس، في "خطيئةٍ" يصعُب أن تُغتفَر.

الطامة الكبرى!

قد يكون من المبالغة بمكان، أن يُقال إنّ "كورونا" ستقرّب المسافات بين "القوات" و"حزب الله"، من باب "التضامن الإنساني" في هذه الظروف، أولاً انطلاقاً من الأجواء السياسيّة الموضوعيّة، التي قد لا تتيح مثل هذا التقارب في الوقت الحاليّ.

فإذا كانت الخصومة شكّلت عنوان العلاقة بين الجانبين، حين كانا يتشاركان الطاولة الحكوميّة الواحدة، فإنّ الحريّ القول إنّها مستمرّة بلا شكّ، يوم أصبح كلّ منهما متموضعاً في الخندق المناقض للآخر، بين الموالاة والمعارضة.

ولكن، قد يكون مفيداً للجميع القفز فوق الحسابات السياسيّة، أقلّه في مقاربة محنة "كورونا"، وقد يكون مجدياً في هذا السياق، أن يتحلّى الجميع بـ "المسؤولية الأخلاقية" بالدرجة الأولى، مسؤوليّةٌ جسّدها الاتصال بين حمد وجعجع بشكلٍ أو بآخر، لكن عمل بعكسها "المحازبون" و"المؤيّدون" في الفضاء الافتراضيّ، على كثرتهم، وهنا الطامة الكبرى...