كثر الحديث خلال الأيّام القليلة الماضية عن خطة إقتصاديّة-ماليّة بنفس إصلاحيّ، أعدّتها الحُكومة بالتعاون مع شركة "لازار" الفرنسيّة، من دون وُضوح الصُورة للرأي العام بشأن ما تتضمّنه وما سيحصل لأموالهم المُودعة في ​المصارف​، الأمر الذي أثار الكثير من البلبلة. فما هي حقيقة هذه الخطة، وهل يُمكن أن تمرّ، وما هو مصير الودائع؟.

على الرغم من مُحاولات أكثر من مسؤول في الحُكومة الحاليّة التخفيف من إرتدادات ما تسرّب عن الخطة ​الإقتصاد​يّة الإصلاحيّة المَوعودة(1)، عبر الحديث عن مسودة أفكار أوّليّة قابلة للنقاش وبالتالي للتعديل، فإنّ الإعتراضات التي لاقتها من قبل العديد من القوى السياسيّة–ولوّ أنّ الكثير من هذه الإعتراضات جاء من باب المُزايدة التي لا تُقدّم أيّ بديل، والنقمة التي أثارتها في صُفوف الرأي العام ال​لبنان​ي، وبخاصة المُودعين، جعلتمريرها على مُستوى السُلطة التشريعيّة، في حال تبنّيها رسميًا من قبل السُلطة التنفيذيّة، غير مُمكن. وبحسب ما صدر من مواقف علنيّة للقوى السياسيّة والنيابيّة الأساسيّة، وما تسرّب من مواقف خلف الكواليس، بات واضحًا لرئيس ​الحكومة​ حسّان دياب ولكل فريق العمل الذي أعدّ "الخطة الإنقاذيّة"، أنّ هذه الخطّة بصيغتها الحاليّة لن تمرّ. والسبب بسيط أنّ أحدًا من القوى السياسيّة غير مُستعدّ للتضحيّة بشعبيّته التي إهتزّت أساسًا بعد إحتجاجات 17 تشرين الأوّل الماضي، من خلال تبنّي أيّ خيارات تقضي بفرض مزيد من ​الضرائب​ أو بحجب مُساعدات قائمة أو بإقتطاع أجزاء من جيوب المُودعين، حتى لوّ كان الأمر عن طريق تحويلها إلى أسهم أو عبر أيّ صيغة أخرى.

إشارة إلى أنّ من بين الأفكار المُقترحة، اللجوء إلى خيارات سبق أن إعتمدت في دول واجهت مشاكل ماليّة كارثيّة، ومنها اليونان مثلاً، لجهة تفعيل الشراكة بين القطاعين العام والخاص، عبر طرح أسهم تعود إلى مؤسّسات الدولة بعد إعادة تأهيلها، وبعد جمعها في صندوق سياديّ. وتصبح هذه الأسهم قابلة للتداول بيعًا أو شراءً في الأسواق الماليّة، الأمر الذي قد يُشجّع الكثير من ​رجال الأعمال​ على خوض هذه التجربة، حتى لوّ جرى إقتطاع أجزاء من ودائعهم وتحويلها إلى أسهم. لكنّ خيار إعطاء المُودع أسهمًا في المصرف في مُقابل إقتطاع أجزاء من حسابه، أو ما يُعرف بإسم Bail-in، يُمثّل عمليًا خيارًا مُموّهًا لما يُعرف بإسم Haircut. وفي كل الأحوال، إنّ القُدرة على تحمّل هكذا خيارات مَحصورة بفئة صغيرة جدًا من المُودعين، تُعتبر مُرتاحة ومُتمكّنة ماليًا، وهي لا تحتاج لكامل ودائعها لتعيش حياة كريمة، بعكس ما حاول مُعدّو الخطّة الإيحاء به عبر تحديد عتبة المئة ألف دولار كسقف غير واقعي للفصل بين الثراء والفقر! فالكثير من المُودعين، عمل بجهد كل حياته ليدّخر القليل من المال لتقاعده أو لتعليم أولاده، أو نال تعويض نهاية خدمة بعد عُقود من العمل المُضني، أو باع قطعة أرض وأودع المال في أحد المصارف للإستفادة من الفوائد وللصمُود وعائلته معيشيًا، أو حصل على إرث من أهله، وهو يُعوّل عليه لتحسين واقعه المَعيشي، إلخ. وبالتالي، إنّ رقم المئة ألف دولار لا يعكس حالة ثراء على الإطلاق، علمًا أنّ مبدأ الإقتطاع المالي من دون مُوافقة ورضا المُودع، مرفوض جملة وتفصيلاً أصلاً، حتى لوّ كان سيطال أكثر الأشخاص ثراء، بشرط أن تكون أموال هؤلاء مُكتسبة بعرق جبينهم وليس من صفقات وسمسرات وسرقات لطالما إشتهر بها البعض في لبنان.

والإنتقادات التي طالت الخطة "الإصلاحيّة" ركّزت على أنّها تدمّر مبدأ الإقتصاد الحُرّ الذي قام عليه لبنان منذ الإستقلال، ما يعني عمليًا تغيير كل البنية الإقتصاديّة والماليّة التي كانت قائمة، علمًا أنّ تغيير هذا النهج مُخالف لما ورد في مُقدّمة الدُستور اللبناني. كما أنّها–بحسب المُنتقدين، تُدمّر الثقة بين المُودع والمصارف بشكل نهائي، علمًا أنّ هذه الثقة تمرّ في مرحلة حرجة جدًا حاليًا، وهي بحاجة لإجراءات تطمينيّة لإستعادتها في المُستقبل، وليس العكس!يُذكر أنّ بعض المُحلّلين تساءل ما إذا كان الهدف من تعمّد تسريب قرارات عالية السقف وتخيف المُودعين، يهدف فعليًا إلى تمرير إجراءات أقلّ حدّة، مثل تجميد الودائع لفترة زمنيّة طويلة، بحيث يُصبح هذا الخيار "الأقلّ سوءًا" بالنسبة إلى المُودعين، وبالتالي مَقبولاً من الجميع؟!.

في كلّ الأحوال، ووسط هذه المَعمعة، فإنّ الثابت الأكيد أنّ هناك واقعًا لا يُمكن الهروب منه، ويتمثّل في ثغرة ماليّة هائلة تُقدّر بنحو 62 مليار دولار أميركي، هي قيمة الأموال التي تبخّرت، عند المُقارنة بين قيمة الودائع المُفترضة وما يُوجد عمليًا في خزينة ​مصرف لبنان​ والمصارف. والكلّ يُلقي المسؤولية على الكلّ! المصارف تتهم السُلطات الرسميّة المُتعاقبة منذ نهاية الحرب حتى اليوم، بتبذير الأموال يمينًا وشمالاً، وبالإستدانة من دون أيّ خطة جدّية تكفل سداد الدين، بهدف كسب رضا الناس سياسيًا، وجزء من المسؤولين يتّهمون مصرف لبنان والمصارف بتوريط ماليّة الدولة في لعبة إستدانة مُغرية ظرفيًا، لكنّها مدمّرة على المدى الطويل لجهة الغرق في نسبة عجز هائلة وفي حجم دين عام لا يُمكن تسديده، بهدف تحقيق الربح السريع! وبغضّ النظر إذا كانت السُلطات التنفيذيّة الرسميّة المُتعاقبة في لبنان هي من يتحمّل مسؤولية ما حصل، أو إذا كانت المصارف ومعها مصرف لبنان بطبيعة الحال هي من يتحمّل هذه المسؤولية، فالواقع المُحزن أنّ نسبة كبيرة من أموال المُودعين مفقودة وضائعة، لا بلّ مَنهوبة ومَسروقة! ولم يعدّ مُهمّا من يتحمّل مسؤولية ذلك، علمًا أنّ كلّ من تورّط في هذه السياسة الماليّة العديمة الرؤية، مسؤول بشكل أو بآخر عن ضياع أموال وجنى عُمر الناس. والأهمّ من كل ما سبق، أنّ التهرّب من تحمّل المسؤولية يجب أن يكون مَمنوعًا، وتبادل الإتهامات لا يُعيد ليرة واحدة، حيث المَطلوب وضعخريطة طريق واضحة لإستعادة هذه الأموال الضائعة تدريجًا، تبدأ من جيوب من تثبت إدانته بسرقة المال العام...

في الختام، يبقى السؤال المَمزوج بكثير من الحسرة، عن الجهة التي ستقوم بهذه المُهمّة الشاقة، طالما أنّ أحدًا من المسؤولين الحاليّين والسابقين يرفض تحمّل جزءًا ولوّ صغيرًا من مسؤوليّة ما حصل، وطالما أنّ مُختلف المسؤولين والقوى السياسيّة يدّعون أنّهم ملائكة وأنّ الآخرين هم الشياطين؟!.

(1) إضافة إلى البعض من النقاط الإيجابيّة في الخطة والتي تتحدّث عن مُعالجة الهدر، وضبط النفقات، ومُعالجة واقع الكهرباء، إلخ، تتضمّن الخطة مساوئ كرفع لبعض الضرائب والرسوم، وخفضًا وتقليصًا لكثير من التقديمات التي تؤمّنها الدولة للمواطنين المدنيّين والعسكريّين، وإجراءات على مستوى ​القطاع المصرفي​ تتضمّن إقتطاعًا مُقنّعًا للأموال عبر تحويلها إلى أسهم بعيدة المدى، إلخ.