يوماً بعد يوم، يظهر أنّ "التضامن الحكومي" غائبٌ عن مكوّنات حكومة حسّان دياب، التي تتعرّض للرشق من "نيرانٍ" صديقة وعدوّة، على حدٍّ سواء، تارةً على خلفيّة خطّتها الاقتصاديّة التي لم تبصر النور، وإن تعمّدت تسريب مسودّتها، وطوراً على خلفيّاتٍ شتّى، ربطاً بمختلف "التحديات" التي تواجهها.

خيرُ دليلٍ على ذلك، "الشكوى" التي نقلها رئيس الحكومة حسّان دياب، في جلسة ​مجلس الوزراء​ الأخيرة، من "حملةٍ سياسيّة" يتعرّض لها، تحت عنوان "الهيركات"، "شكوى" تزامنت، في مفارقةٍ لافتةٍ، مع أطروحةٍ لرئيس مجلس النواب ​نبيه بري​، أحد عرّابي الحكومة، دعا فيها إلى قراءة الفاتحة والترحّم على "الهيركات".

لكنّ بري حرص في الوقت نفسه، على نفي تهمة "التخريب" على دياب، باعتبار أنّ العلاقة مع الأخير، "أكثر من جيّدة"، قبل أن "يزايد" على نفسه بتشبيهها بالعلاقة مع رئيس الجمهورية ​ميشال عون​، مع كلّ "الجدليّة" التي تختزلها الأخيرة، فما الذي يعنيه مثل هذا التشبيه؟ وأيّ "رسائل" يمكن قراءتها من خلفه؟!.

علاقة جدليّة...

قد لا يكون مفاجئاً في وضع علاقة بري بكلّ من رئيسي الجمهورية والحكومة، في خانةٍ واحدةٍ، سوى أن يكون هذا التشبيه قد صدر عن رئيس البرلمان نفسه، وليس عن أحد المراقبين أو المحلّلين مثلاً، باعتبار أنّ الأشهر الثلاثة الماضية حملت بين طيّاتها الكثير من "الشواهد" على أنّ علاقة بري ودياب لم تكن في أحسن أحوالها، تماماً كما كانت علاقة بري وعون.

ولعلّ "الجدليّة" في العلاقة تنطلق من لحظة التسمية، ولو ألمح رئيس البرلمان أنّه فعل "السبعة وذمّتها" حتى تُشكَّل حكومة برئاسة دياب، الذي وصفه بأنّه "صديقه" منذ كان وزيراً للتربية، إذ إنّ كلّ الوقائع تؤكد أنّ بري، تماماً كما لم يكن راضياً عن "تسوية" انتخاب عون رئيساً للجمهورية، لم يكن "متحمّساً" لتسمية دياب رئيساً للحكومة، بل إنّه كان يفضّل الإبقاء على تسمية رئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​، ويصحّ القول إنّه فعل "السبعة وذمّتها" ليبقى الأخير في منصبه، ولكنّه اصطدم بـ"تعنّته"، ورفضه أيّ "تليينٍ" لشروطه.

ومع أنّ بري لعب دوراً أساسياً وجوهرياً في تسهيل ولادة الحكومة، بعد تيقّنه من "استحالة" التوافق بين الحريري وحلفائه على "حلّ وسط"، إلا أنّه تحوّل في الحكومة، بنظر كثيرين، إلى "المشاكس الأول"، بل من يخوض "المعارك" مع دياب بالوكالة عن خصومه، ولا سيما الحريري، لا بالأصالة عن نفسه، الأمر الذي تُرجِم بـ"التناغم" الذي سُجّل في العديد من المواقف، ولا سيّما "الشعبويّ منها، بين بري ومعارضي الحكومة، بل إنّ بري كان المُبادِر في أكثر من مناسبة إلى التصويب، قبل أن يتلقّف الآخرون الهجوم.

هكذا مثلاً، كان "الأستاذ" أول المصوّبين على "الهيركات"، بل سعى لينسب لنفسه "فضل" دفنه في مهده، في وقتٍ كان رئيس الحكومة يتحدّث عن "حملةٍ سياسيّة" يتعرّض لها بهذا العنوان، تماماً كما كان سابقاً أول المصوّبين على الحكومة، تارةً على خلفية مشروع "الكابيتال كونترول"، وطوراً على موضوع استقدام المغتربين مثلاً، وصولاً إلى حدّ التهديد بتعليق مشاركته في الحكومة بسببه، فيما كان معارضو الحكومة "يثنون" على أدائها في مواجهة وباء "​كورونا​"، قبل أن يتبنّوا "قضية" بري.

دعمٌ مشروط؟!

إزاء ما تقدّم، يصبح التساؤل مشروعاً عن "الرسائل" التي أراد برّي إيصالها لدياب، حين شبّه علاقته به بعلاقته بعون، ولو غلّفها ظاهرياً بإيجابيّةٍ "ضبابيّة"، باعتبار أنّ العلاقة معه "أكثر من جيّدة"، على رغم كلّ ما قيل ويُقال، وربما سيُقال في القادم من الأيّام.

في المبدأ، قد يكون برّي أراد الإيحاء بأنّه يتعاطى بـ "واقعيّة" مع دياب وحكومته، باعتبار أنّها باتت "أمراً واقعاً" اليوم، وهي "واقعيّة" تشبه تعاطيه مع رئيس الجمهورية ميشال عون بعد انتخابه، حين قرّر طيّ صفحة الماضي مع الرجل، وبالتالي كواليس ودهاليز "التسوية" التي أفضت إلى التوافق عليه، وفتح صفحةٍ جديدة، علماً انّ ما يعزّز من هذه "الواقعية" كون البدائل غير متوافرة اليوم، بل إنّ أيّ بحثٍ فيها في الوقت الحاليّ يكاد يكون ضرباً في المجهول، الذي لا ينقص لبنان في ظلّ كلّ التهديدات الوجوديّة التي يعيشها، سوى أن يستظلّ به.

لكن، أبعد من هذه الواقعيّة، ثمّة رسالة "دعم" خلف السطور يمكن قراءتها في موقف رئيس المجلس من دياب، بيد أنّه دعم "مشروط"، إذ إنّ بري الذي يقرّ بأنّه سمّى وزيرين في الحكومة، يحاول أن يرسم "مسافة فاصلة" بينه وبين الحكومة، التي لم تكن أصلاً "خياره الأفضل"، باعتبار أنّه بقي من مناصري فكرة "الحزبيّين"، لا "الأخصّائيّين"، وبالتالي فإنّه ليس جاهزاً أن يقدّم لها أيّ دعمٍ مُطلَق ومجّاني، و"كيفما كان"، بل يريدها وفق تطلّعاته هو، لا وفق هوى أيّ فريق يريد "الاستئثار" بقراراتها، علماً أنّ جميع مكوّنات الحكومة تعتبر نفسها "بيضة القبان" فيها، بشكلٍ أو بآخر.

ولعلّ تشبيه بري علاقته بدياب بعلاقته مع عون، انطلاقاً من هنا، لم يأتِ عن عبث، إذ حمل بين طيّاته رسالة بهذا المنحى أيضاً إلى "​التيار الوطني الحر​" نفسه، وهو ما يفسّر أصلاً حرص بري على إبداء موقفه من ​التشكيلات القضائية​ المتعثّرة في الحكومة، وصولاً إلى حدّ اعتبار عدم صدورها "عيباً كبيراً"، وقوله إنه يقف فيها إلى جانب مجلس ​القضاء​ الأعلى، وبالتالي ضدّ موقف وزيرة العدل المحسوبة على "التيّار"، فضلاً عن تلميحه إلى التدخّلات السياسية في هذه ​التعيينات​، بحديثه غير البريء عن "استقلالية" القضاء، التي يطالب بها منذ كان وزيراً للعدل، كما قال.

لعبة سياسيّة؟!

في المحصّلة، يمكن الحديث عن أكثر من تفسيرٍ للعلاقة "الجدلية" بين بري ودياب، تماماً كما للعلاقة بين بري وعون، سابقاً وحالياً.

بالدرجة الأولى، ثمّة من يقول إنّ "الواقعيّة" هي عنوان هذه العلاقة، بعيداً عن "الرضا الكامل"، فبري يتعامل مع الرجلين، بوصفهما "أمراً واقعاً" أكثر من أيّ شيءٍ آخر، وثمّة من يعطي العلاقة، ربطاً بذلك، عنواناً آخر هو "المصلحة"، باعتبار أنّه أساس العمل السياسيّ في أصله وجوهره.

وبين هذا وذاك، ثمّة من يتحدّث عن "توزيع أدوار" يلعبه بري، بالتكافل والتضامن، مع "​حزب الله​"، فيلين الأول حين يتشدّد الثاني والعكس بالعكس، بما يضمن "التحكّم" باللعبة السياسية بالكامل، "لعبة" قد تكون "حقاً بديهياً" في الظروف الطبيعية، لكن "الحذر" إزاءها يكاد يكون واجباً في الظروف الاستثنائية، حتى لا "تطيح" بالبلد وبكلّ المكتسبات...