منذ ما قبل اندلاع "ثورة 17 تشرين الأوّل" الماضي، كان الوئام والوفاق على اكمل وجه قائماً وبقوة بين ​الدولة​ وحاكم مصرف ​لبنان​ و​جمعية المصارف​، وكانت الامور تدار بسلاسة ولا همّ معلن الا بعض المعاناة المالية لمواطنين فقط. ولكن، بعد تاريخ 17 تشرين الأول، وجد لبنان نفسه امام واقع مرير كان يحاول الهروب منه لسنوات وربما لعقود طويلة من الزمن، واقع يضع مواطنيه مباشرة امام ازمة سيولة مالية خانقة، لم تعرف الدولة تحمّل مسؤولياتها فيها، ولم يعرف ​مصرف لبنان​ ولا جمعية المصارف كيفية تحذيرها من الوضع، فكان الجميع مسروراً بحصوله على ما يريد، دون ان يكلّف احد نفسه عناء مراجعة الحسابات ووضع ​سياسة​ سليمة تجنذب البلد ما وصلت اليه الاوضاع في الوقت الراهن.

ومع مرور الوقت، كانت الامور على ارض الواقع تزداد حدة، وكان التوافق لا يزال قائماً والسلاسة نفسها تسود العلاقة الخيالية التي جمعت الدولة بالمصارف ومصرف لبنان، الى ان اخذت الاوضاع تزداد سوءاً ووصلت الى حد اللاعودة، فكانت القرارات القاسية التي قلبت الامور رأساً على عقب ووضعت الجميع امام خياراتهم، بعد ارتفاع معاناة المواطنين الذين لم يعد بمقدورهم سحب اموالهم من المصارف أكانت مجمّدة ام غير مجمّدة، وانقطع ​الدولار​ الاميركي عن جيوب اصحابه وبقي في مكانه في المصرف، فيما ارتفع بشكل جنوني على طاولة الصيارفة.

هذا الامر ادى الى تدهور العلاقة بين الدولة والمصارف ومصرف لبنان، وشعر كل طرف ان الثاني يستهدفه وان خلاصه يكون عبر احراج الآخر. بالامس تحدّث رئيس جمعية المصارف ​سليم صفير​ عن هذا الامر، والقى باللوم على ​الحكومة​ (الحكومات المتعاقبة) من خلال اتهامها بهدر موارد الدولة، فيما يتم استهداف ​القطاع المصرفي​ عبر اعادة هيكلته. هذا الكلام اتى وكأنه يتضمّن تحذيراً مبطناً من ان المصارف ومصرف لبنان لا يمكن التعامل معها كما تم التعامل مع نقابة اصحاب الافران التي حاولت تغيير قواعد اللعبة فخسرت المواجهة مع الحكومة، وتراجعت عن قراراتها.

مما لا شك فيه ان المواجهة مع المصارف ومصرف لبنان مختلفة كلياً عن المواجهة مع الافران، ان من حيث الشكل او المضمون، ولكن القاسم المشترك بين المواجهتين هو المواطن الذي يدفع الثمن في كل مواجهة من جيبه الخاص، فهو كان خارج الحسابات حيث كان "شهر العسل" قائماً بين الحكومات والمصارف، وها هو اليوم ايضاً خارج الحسابات بعد ان اشتدت الازمة بين الطرفين، وبات همّه الوحيد عدم خسارة أمواله في المعركة القائمة.

قد يملك صفير معطيات ومعلومات دفعته لقول ما قاله، ولكن من المهم ان توقف الحكومة "فترة التشويق" وتعلن عن خطتها الاقتصادية الموعودة والتي وضع رأيه فيها العديد من الشركات الدولية المالية، وحتى ​صندوق النقد الدولي​، لتكون المحك الحقيقي لقدرة الحكومة على بداية وضع لبنان على المسار الصحيح لاستعادة عافيته الاقتصادية والمالية، او على فشلها في ​تحقيق​ هذه الغاية والتفكير بخيارات اخرى قد تطالها بشكل عام او تطال خططها واقتراحاتها وطريقة تفكيرها بشكل خاص.

في كل الاحوال، المطلوب اليوم وقفة رسمية واضحة ووضع الخلافات السياسية بين السلطات جانباً والتخلي عن سياسة المماحكات وتسجيل النقاط، وعدم لجوء اي قطاع في لبنان، رسمياً كان ام خاصاً، الى " استغباء" المواطنين والادّعاء بوضع مصلحتهم اولاً، فهم يعرفون انّ هذا الامر بات من المستحيل، ولكن من المهم لهم استعادة حقوقهم ومعاينة خطة واقعية تعيدهم الى خريطة الامل والقدرة على التفكير ب​المستقبل​ ووضع اولادهم، فالحروب الداخلية اكانت عسكرية ام سياسية ام اقتصادية اثبتت فشلها الذريع في هذا المسار، ولا بد من الاتعاظ من مساوئ الماضي.