أظهرت توجّهات تصويت النوّاب خلال الجلسة التشريعيّة الأخيرة، إستمرار الإنقسامات الحادة بين مُختلف القُوى السياسيّة، مع تسجيل إصطفافات بيّنت حجم الخلافات الكبيرة بين أفرقاء الصفّ الواحد. وفي غُضون ذلك، تصاعدت النقمة الشعبيّة بشكل كبير، بفعل تفاقم الضائقة المعيشيّة والحياتيّة بوتيرة سريعة ومخيفة، الأمر الذي قد يقطع الطريق على مُحاولة الحُكومة الحاليّة إيجاد الحلول للنفق المُظلم الذي دخل فيه ​لبنان​ نتيجة التراكمات السابقة. فأيّ مُستقبل ينتظرنا؟.

لا يبدو أنّ إنتفاضة 17 تشرين الأوّل قد تركت أيّ أثر لدى القوى السياسيّة اللبنانيّة المُختلفة، ولا يبدو أنّ الصُعوبات الإقتصاديّة والماليّة التي يُعاني منها المُواطنون، قد دفعت هذه القوى إلى تبديل أساليب تعاطيها مع الشأن العام، حيث ما زالت المُزايدات بين مُختلف القوى السياسيّة قائمة، وما زالت سياسات تبادل الإتهامات ورمي المسؤوليّات وتسجيل النقاط مُستمرّة، بدل توحيد الجُهود للخروج من الواقع المُزري الذي بلغه لبنان، ولإنقاذ ​الشعب اللبناني​ من خطر ​الفقر​ المُدقع، وحتى من خطر الجوع الوشيك، في ظلّ الإنهيار المَفتوح لقيمة العملة الوطنيّة أمام ​الدولار​ الأميركي!.

ومن الملفّات التي لم تمرّ خلال الجلسة التشريعيّة، على غرار إقتراحات مشاريع قوانين مُحاكمة الرؤساء والوزراء، و​العفو العام​، وفتح إعتماد إضافي بقيمة 1200 مليار ليرة لبنانية لتأمين "شبكة الأمان الإجتماعي"، إلخ. وُصولاً إلى مشاريع قوانين جرى إقرارها، على غرار تشريع زراعة القنّب، وفتح إعتماد إضافي بقيمة 450 مليار ليرة لتسديد مُستحقّات المُستشفيات الخاصة، إلخ. كان الإنقسام السياسيّ وعلى مُستوى التموضعات الحزبيّة، سيّد الموقف على الإطلاق. وفي هذا السياق،تبدّلت تحالفات التصويت مرارًا وتكرارًا، فمرّة تكتّل نوّاب كلّ من "​الثنائي الشيعي​" و"​القوات​" و"​الكتائب​" بوجه "الوطني الحُرّ" و"المُستقبل" و"الإشتراكي"(1)، ومرّة ثانية تموضع "التيّار" و"القوات" و"الكتائب" بوجه "الثنائي الشيعي" والمُستقبل(2)، ومرّة ثالثة إصطفّت كتل "القوات" والإشتراكي" و"​التنمية والتحرير​" ضُدّ "​حزب الله​" ونوّاب آخرين(3)، ومرّة رابعة نسف نوّاب "المُستقبل" و"الإشتراكي" بغطاء من رئيس ​مجلس النواب​ ​نبيه برّي​ النصاب القانوني للجلسة التشريعيّة بوجه مُحاولة فاشلة قام بها رئيس ​مجلس الوزراء​ حسّان ديّاب لإستمرار الجلسة، بدعم من نواب "الوطني الحُرّ" وآخرين (4)، إلخ.

وفي تقييم للمواقف التي صدرت خلال نقاشات النوّاب، تبيّن أنّ توجّهات التصويتتنطلق من إعتبارات سياسيّة وإنتخابيّة، وكأنّ لا شيء قد تغيّر. فمثلاً، الهدف الفعلي من التصويت على قانون العفو، والذي جمع النقيضين أي "حزب الله" و"المُستقبل"، هو تعزيز التأييد في الشارع وكسب المزيد من الأصوات الإنتخابيّة، عن طريق تأمين الإفراج عن الموقوفين من المُتشدّدين الإسلاميّين بضغط من نوّاب "المُستقبل"، وعن طريق تأمين الإفراج عن محكومين وكذلك وقف التعقّبات بحقّ عشرات آلاف المَطلوبين من ​منطقة البقاع​ بضغط من "حزب الله". ويبدو أنّ "الثنائي الشيعي" مُصرّ على تمرير هذا المشروع في أقرب فرصة-مهما كلّف الأمر، والدليل مُسارعة رئيس مجلس النواب نبيه برّي إلى الدعوة لعقد جلسة مُشتركة للجان الإدارة و​العدل​ والدفاع الوطني والداخليّة والبلديّات ولجنة حُقوق ​الإنسان​، لدرس إقتراحات القوانين المُتعلّقة بالعفو العام، يوم الأربعاء المُقبل، إلتفافًا على الإعتراضات التي برزت، والتي حاول البعض منحها صبغة طائفيّة. ومع كل مشروع، وإقتراح قانون، كانت الحجج الداعمة أو تلك الرافضة جاهزة، في حين أنّ التمعّن بخلفيّات أغلبيّتها، دلّ على مُزايدات سياسيّة هنا، وعلى مُحاولة لكسب التأييد الشعبي هناك، وعلى مُحاولات لإحراج الخُصوم السياسيّين هنالك.

ووسط هذه المعمة، إزدادت حدّة ​الأزمة​ الإقتصاديّة والماليّة، مع كل إرتداداتها المَعيشيّة والحياتيّة السلبيّة على الشعب اللبناني، في ظلّ تبادل للإتهامات وتقاذف للمسؤوليات، بدلاً من العمل على إيجاد الحلول. وهنا أيضًا، إنقسمت الآراء بين مُؤيّد للحكومة من جهة، ومُشكّك لحسن إدارتها للأزمة من جهة أخرى، وكذلك بين من يلوم حاكم ​مصرف لبنان​ و​المصارف​ والقوى التي تقف وراءهم بإختلاق الأزمة، ومن يعتبر أن ما يحصل يهدف إلى محاكمة سياسيّة لفئة مُحدّدة بواجهة إقتصاديّة. لكنّ وفي حين بقي بعض المؤيّدين والمُناصرين على تبعيّتهم العمياء لهذا الفريق أو ذاك، فإنّ أي جولة على التعليقات على ​مواقع التواصل الإجتماعي​، تُظهر أنّ نقمة أغلبيّة كبيرة من الرأي العام بلغت ذروتها على الجميع من دون إستثناء، وأنّ إنفجارًا إجتماعيًا صار قريبًا جدًا. والخشية كل الخشية من أن تزيد الإعتراضات والتحرّكات المُتوقّع عودتها إلى الشارع في القريب العاجل من حدّة الأزمة، لأنّ إنطلاق الكثير من المُعترضين من خلفيّات معيشيّة وحياتيّة، لا يُسقط الخلفيّة السياسيّة لكثير من التحرّكات الأخرى، في ظلّ إستحالة تحويل المطالب المَشروعة إلى مشاريع قابلة للتنفيذ، وكذلك لأنّ عجلة المُعالجات المُفترض أن تدور لا تزال تعترضها عصا سياسيّة من هنا، وعصا طائفيّة ومذهبيّة من هناك، وعصا تركيبة مافياويّة مُتجذّرة من هنالك...

في الختام، أيّام قليلة تفصلنا عن الخطة الإقتصاديّة-الإصلاحيّة التي يفترض أن تُعلنها ​الحكومة​ قريبًا، وعندها سيظهر الخيط الأبيض من الأسود، بالنسبة إلى الوجهة التي ستسلكها الأوضاع في لبنان: فإمّا الذهاب نحو بداية طريق الإنقاذ الشاق والطويل، وإمّا الذهاب إلى الهاوية والإنهيار بخطوات لن يتصوّر أحد مدى سرعتها!.

(1) عند البحث في خيارات مُحاكمة الرؤساء والوزراء حيث أكّد المُعترضون أنّ المسألة تتطلب تعديلات دُستوريّة ولا تمرّ باقتراح قانون يحمل صفة العجلة.

(2) عند إقتراح قانون العفو العام، حيث أكّد المُعترضون أنه لا يُمكن الإفراج عن كثير من القتلة الخطيرين بحجة التخفيف من إكتظاظ السُجون.

(3) عند إقتراح قانون تشريع زراعة القنّب، حيث رفع "الحزب" حجّة "غياب دراسة الجدوى الإقتصاديّة" للإعتراض على المشروع.

(4) عند إقتراح مسألة فتح إعتماد إضافي بقيمة 450 مليار ليرة لدفع مُستحقّات المُستشفيات الخاصة.