بخلاف ما حصل في تشرين الثاني الماضي، حين مُنِع ​مجلس النواب​ من الالتئام على وقع التحرّكات الشعبيّة المناهضة للطبقة السياسية، كُتِب للجلسة التشريعية أن تبصر النور هذا الأسبوع، ولو بظروفٍ استثنائيّة، جغرافيّاً ولوجستيّاً، على حدّ سواء.

عُقِدت الجلسة بعد طول انتظار، ولم ينجح "الثوّار" في تعطيلها من جديد، لتأتي النتيجة "صاعقة" لكثيرين، بعدما تحوّل ​قصر الأونيسكو​ "مسرحاً" لسجالاتٍ لا تنتهي، ولبطولاتٍ "وهميّة" حملت عنواناً واحداً لا لبس حوله، ألا وهو رفض التغيير.

هي ربما "الثورة التشريعيّة" التي وعد بها رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​، إبان ​التظاهرات​ الشعبية، "ثورة" تجلّت بأبهى حُلَلها، في جلسةٍ لم يتوانَ المشاركون فيها عن "تطيير" مشاريع "إصلاحيّة"، قبل أن تنتهي بما يشبه "المسرحيّة الاستعراضية"، مع فقدان النصاب.

إزاء ذلك، يسأل كثيرون عن "الإنجازات" التي حقّقتها ​الجلسة التشريعية​، بمُعزَلٍ عن تحفيز الشارع واستنهاضه، وهو ما تُرجِم سريعاً على أرض الواقع، ولو بتحرّكاتٍ بقيت "متواضعة" نسبياً، بموجب "التعبئة العامة" التي فرضتها "كورونا".

ماذا تغيّر؟!

حين تمّ إقفال مداخل مجلس النواب في "عزّ" الثورة في تشرين الثاني الماضي، ومُنِع ممثلو الشعب من حضور الجلسة التشريعية التي كانت مفترضة، لم يتأخّر رئيس البرلمان في إبداء "استيائه" من الأمر، باعتبار أنّ مجلس النواب كان أساساً سيلتئم لتحقيق مَطالِب المتظاهرين، كما قال، متحدّثاً عن "ثورة تشريعية" كان البرلمان يوشك على الانطلاق بها.

يومها، كان بري يغمز من قناة مجموعةٍ من المشاريع واقتراحات القوانين "الإصلاحيّة" التي وُضِعت على جدول الأعمال، بينها ما يتعلق ب​مكافحة الفساد​، ومواجهة الجرائم المالية، ورفع الحصانة عن المسؤولين، ولو "لُغّمت" ببند قانون العفو، على حساسيّته،وهو أراد بذلك الإيحاء بأن مرحلة ما بعد "الثورة" لا تشبه ما قبلها.

يحلو للبعض وضع تصريح بري "الرياديّ" هذا في الكفّة نفسها التي وُضع فيها قبله تصريحه الشهير عن أنّ البرلمان سيتحوّل إلى "خلية نحل"، يوم أراد "تبرير" سنّ النواب لقانونٍ يمدّدون فيه ولايتهم، من دون العودة إلى الشعب الذي منحهم تفويضه، باعتبار أنّ شيئاً من ذلك لم يحصل، وأنّ "خلية النحل" لم تُترجَم سوى بـ "الشلل الكامل" على خطّ البرلمان، الذي لم يشرع مثلاً ببحث ​قانون الانتخاب​ بصورة جدية سوى بعد تمديدٍ آخر، أفضى إلى ثالث وُصِف بـ"التقني".

ولعلّ الجلسة التشريعية التي عُقِدت هذا الأسبوع تكفي لتأكيد هذا المنحى، وهي التي لم تُفضِ مبدئياً سوى إلى إسقاط صفة "العجلة" عن المشاريع الموصوفة بالإصلاحيّة، وبعضها تباهى بري بوضعها ضمن جدول الأعمال قبل زهاء ستّة أشهر، وما تبع ذلك من سجالاتٍ عنيفةٍ بين النواب أنفسهم، تخلّلها تراشق اتهاماتٍ حول "المسؤوليّات"، لم تغب عنه أدبيّات "البروباغندا" و"الشعبوية" المعروفة، ما ثبّت بما لا يقبل الشكّ، أن شيئاً لم يتغيّر، وأنّ "العقلية" التي تُدار بها شؤون الناس برلمانياً لا تزال هي نفسها.

"مهزلة تشريعية"؟!

قد يكون المشهد الذي انتهت إليه الجلسة التشريعية، لجهة تطيير النصاب عند طرح اقتراح قانون مقدَّم من الحكومة لمساعدة الفئات المهمَّشة، وما أفضى إليه من "توتر" عالي السقف على "جبهة" رئيسي البرلمان والحكومة، استمرّ فصولاً ببياناتٍ وتصريحاتٍ مضادّة، كافياً للحديث عن "مهزلة تشريعية"، كبديلٍ عن "الثورة التشريعية" التي أطلقها بري قبل أشهر.

وبطبيعة الحال، فإنّ السجال بين بري ورئيس الحكومة حسّان دياب، والذي فضح الكثير ممّا كان مخفياً عن العلاقة "المشحونة" بين الرجلين، اللذين يفترض أنّهما "حليفان"، لا يختصر "المهزلة التشريعية" بالمُطلَق، باعتبار أنّها ليست سوى نقطة في بحر ما حملته الجلسة التشريعية من "مهازل"، بعضها قانونيّ، وبعضها سياسيّ، وبعضها، وهو الأهمّ ربما، شعبويّ، ويتمثّل بمساعي البعض إلى "تسجيل النقاط"، وليس أكثر.

وقد تكون إحدى المهازل، التي يشير إليها الخبراء في القانون، وفي التشريع تحديداً، تتمثّل في استسهال وضع صفة "المعجّل المكرّر" على أيّ مشروع قانون يتمّ طرحه، من دون مراعاة الشروط الموضوعيّة لذلك، وأولها وجود "حاجة مُلِحّة" لتمرير المشروع على وجه السرعة، ومن دون أيّ إبطاء في الحسم، وهو ما لا ينطبق على مجموعة كبيرة من المشاريع، علماً أنّ هؤلاء الخبراء يعتبرون أنّ "مهزلة التشريع" بدأت مع الإطاحة بأصحاب الباع الطويل في التشريع، في ​الانتخابات النيابية​ الأخيرة، لصالح بعض رجال الأعمال وأصحاب الأموال، وهو "جرمٌ" اشتركت معظم ​الكتل النيابية​ في اقترافه، ربما بعنوان الحاجة إلى "تمويل" الحملات الانتخابيّة.

لكن، أبعد من هذه الإشكاليّات القانونيّة والدستوريّة، فإنّ "المهزلة" الحقيقيّة تبقى حاضرة في "العقليّة" التي أسقطت معظم المشاريع الإصلاحيّة، التي سقطت بقدرة قادِر، وبعضها من الكتل النيابية التي لم تتوانَ عن تسلّق "ثورة" اللبنانيين، واعتبار أنفسها ناطقة باسمها، بشكلٍ أو بآخر، فإذا بها تشكّل رأس حربة ضدّ مشاريع لطالما كانت مطالب بديهيّة للمتظاهرين، وعلى رأسها، على سبيل المثال لا الحصر، مشروع رفع الحصانة عن الوزراء الحاليّين والسابقين، تمهيداً لمحاكمتهم أمام القضاء العادي، بعدما أثبت "المجلس الأعلى ل​محاكمة الرؤساء والوزراء​" عدم أهليّته لذلك.

"الإنجاز الوحيد"

لعلّ الخلاف الذي دار بين رئيس حزب "الكتائب" ​سامي الجميل​ ونائب رئيس المجلس النيابي ​إيلي الفرزلي​، يشكّل نموذجاً آخر لـ "العقليّة" التي لا تزال تتحكّم بالعمل البرلماني بشكلٍ أو بآخر، ولو حاول رئيس البرلمان إخفاءها، بإلغائه النقاش في الأوراق الواردة في مستهلّ الجلسة.

فإذا كان من الطبيعي أن يجد مشروع قانون لتقصير ولاية المجلس النيابي، طريقه إلى "السقوط" السريع، ومن دون حدّ أدنى من التفكير أو النقاش، بخلاف ما كان عليه الحال مع مشاريع "التمديد" التي كانت تُصدَّق تلقائياً وبإجماعٍ قلّ نظيره، فإنّ "الاشتباك" بين الجميل والفرزلي أكّد أنّ شيئاً لم يتغيّر.

قد يكون الجميل أراد "تسجيل النقاط"، خصوصاً أنّ الانتخابات النيابية المبكرة تبقى صعبة التنفيذ حالياً، وأنّ لا توافق حتى بين مجموعات ​الحراك الشعبي​ على المسار الذي يجب أن تتّخذه، والقانون الذي يفترض أن تُجرى على أساسه، ولذلك أراد الفرزلي أن يتصدّى له بالسياسة، متهماً إياه بـ"البروباغندا" وغيرها.

لكن، أبعد من هذا وذاك، فإنّ الأكيد أنّ برلمان ما بعد "الثورة" هو نفسه برلمان ما قبلها، وأنّ "الإنجاز" الوحيد الذي حقّقته الجلسة التشريعية، التي يتساءل الكثيرون اليوم عن "جدواها" طالما أنّها خرجت بهذه الصورة، لا يتجاوز "استنهاض" الشارع، ووضع حدّ لـ"الأوهام" بأنّ "ثورة تشريعية" واردة في ظلّ مثل هذا البرلمان!.