ما من شك أنّ التضحية بحاكم ​مصرف لبنان​ ​رياض سلامة​، قد تقرّرت، والجلسة الاخيرة ل​مجلس الوزراء​ اطلقت العدّ التنازلي لإقالته.

ستُقدّم هذه الإقالة المؤجّلة حالياً، الى حين إنضاج ظروف طرحها مجدداً على مجلس الوزراء، على أنّها أحد أهم إنجازات عهد الرئيس ​ميشال عون​، علماً انّه في هذا العهد نفسه، وقبل فترة ليست بعيدة، قد تمّ التجديد لرياض سلامة لست سنوات اضافية، وعلى انّها واحدة من الخطوات الإصلاحيّة المُنتظرة من ​حكومة حسان دياب​، وانّها تلبّي مطلب ​الحراك الشعبي​.

الواضح في جانب الراغبين بإقالة الحاكم، هو عدم الإكتراث لموقف بعض الاصوات المعارضة، التي اعتبرت استهداف سلامة فصلاً من حرب انتقامية قرّرها رئيس الجمهورية ومن معه، وينفذها رئيس ​الحكومة​ ومن معه. الّا انّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل من يريدون تطيير سلامة قد درسوا كل الاحتمالات؟ وهل حصّنوا انفسهم امام ارتدادات هذه الخطوة، وما قد يستتبعها من ردود فعل من قِبل الحلقة المحلية والخارجية التي تغطي رياض سلامة؟

بمعزل عن هذه الإرتدادات، فإنّ عون ودياب ومن معهما في الحكومة، لم يقرّروا إقالة سلامة فحسب، بل ألزموا انفسهم بها، ولم يعودوا قادرين على التراجع عنها، الّا اذا فرضت ذلك «إرادة» محلية او خارجية اقوى من قرار الإقالة نفسه. وبدا هذا الإلزام جليًّا في «الإضبارة الاتهامية» التي تلاها رئيس الحكومة من ​القصر الجمهوري​، في وجه سلامة، وكان في هذه التلاوة اقرب الى مدّعي عام حكومي.

سيردّ رياض سلامة على هذه الإضبارة، ويمكن أن يبق البحصة، ويميط اللثام عن كل شيء ويكشف خفايا سنوات طويلة من «الاستفادات» من المال العام. وعلى الرغم من كل ذلك، فإنّ الإضبارة الاتهامية الحكومية بحقه، واذا ما تمّ التعمّق فيها مليًّا، هي التي ستشكّل نقطة الإرتكاز للقرار المؤجّل بإقالة حاكم مصرف لبنان. وتتضمن 6 نقاط اتهامية اساسية وصريحة:

الأولى، وردت في إشارة رئيس الحكومة الى «غموض مريب في أداء حاكم مصرف لبنان إزاء تدهور سعر صرف الليرة، وهذا يؤدي الى تسارع التدهور..».

الثانية، ورد في حديث دياب عن دور مصرف لبنان، واعتباره هذا الدور «اما عاجز، واما معطّل بقرار، او محرّض على هذا التدهور الدراماتيكي في سعر العملة الوطنية».

الثالثة، ورد في قول رئيس الحكومة انّه «لم يعد ممكناً الاستمرار في ​سياسة​ المعالجة في الكواليس، يجب ان يكون هناك وضوح ومصارحة مع اللبنانيين، لا يجوز ان تبقى هناك معلومات مكتومة عنهم، بينما يدفعون ثمن تداعيات هذه السياسة، فليخرج حاكم مصرف لبنان وليعلن للبنانيين الحقائق بصراحة ولماذا يحصل ما يحصل، وما هو افق المعالجة وما هو سقف ارتفاع الدولار»؟

الرابعة، تشكيك رئيس الحكومة بما كان يقوله سلامة، وقوله: «هل ما زال في إمكان حاكم مصرف لبنان الاستمرار في تطمين اللبنانيين على سعر صرف ​الليرة اللبنانية​، كما فعل قبل اشهر، ثم فجأة تبخّرت هذه التطمينات»؟

الخامسة، وردت في اشارة رئيس الحكومة الى انّ «هناك فجوات كبرى في مصرف لبنان، فجوة في الأداء، فجوة في الاستراتيجيات، وفجوة في الصراحة والوضوح، وفجوة في السياسة النقدية وفجوة في الحسابات».

السادسة، وردت في اشارة رئيس الحكومة البالغة الدلالة الى انّ «المعطيات التي لدينا تكشف انّ الخسائر المتراكمة في مصرف لبنان تتسارع وتيرتها، وقد ارتفعت 7 مليارات دولار منذ بداية العام ولغاية منتصف نيسان، من بينها 3 مليارات دولار في الاسابيع الاخيرة».

اللافت للانتباه في هذه الاضبارة الاتهامية، انّها بدت مسبوكة، ومنقّحة اكثر من مرّة، وكلماتُها مدروسة بعناية شديدة؛ كلمة كلمة بالفاصلة وبالنقطة، لكي تعبّر بوضوح عن المقصود منه، لتبني في النهاية «بيان اللاعودة عن إقالة سلامة»، الذي يدور في كل مضامينه حول المادة 19 من قانون النقد والتسليف، التي تجيز بشكل صريح وواضح اقالة حاكم مصرف لبنان، «لعجز صحي مثبت، أو لخطأ فادح في تسيير الاعمال، او للإخلال بواجبات وظيفته». وبالتالي سيكون مضمون كلام دياب، هو الاساس الذي سيرتكز عليه لإدانة سلامة واقالته عندما يحين موعده.

كانت الحكومة على وشك اقالة سلامة في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، لولا بروز اعتراضات من وزراء حركة «امل» وتيار «المردة»، وتحذيرات من أبعاد ما سُمّيت «إقالة عشوائية»، وتساؤلات حول مغزاها والغاية منها في هذا التوقيت، واي مصلحة ستُجنى من اقالة حاكم مصرف لبنان، وتفريغ ​المصرف المركزي​ من مجلسه المركزي نهائياً وتعطيل قراره، في لحظة الانهيار المريع الذي تشهده الليرة اللبنانية؟

ماذا بعد؟

أمام التوجّه النهائي للإطاحة بحاكم مصرف لبنان، تبرز جملة ملاحظات في مقاربات سياسية واقتصادية مختلفة، وفيها: - لا أحد يستطيع أن يبرّئ رياض سلامة ويعفيه من المسؤولية، ولكن قبل مساءلته، ينبغي اولاً تحديد المسؤوليات عن كل ما حصل من هدر وامتيازات وانهيار وافلاس، ومن ثم إجراء المساءلة تبعاً لهذه المسؤوليات:

فالمسؤول الأول، هو ​الدولة اللبنانية​، بحكوماتها المتعاقبة، التي استدانت من مصرف لبنان، ولم تُرجع دينها، وأفرطت في الإنفاق وفي القرارات العشوائية والمُكلفة جداً على الخزينة، من ​سلسلة الرتب والرواتب​، الى الصرف اللامجدي على ​الكهرباء​ والبواخر، وحمت ​الفساد​ وغطّت محمياته ولا تزال.

والمسؤول الثاني، هو مصرف لبنان، الذي هو جزء من الدولة، لأنّه تصرّف بشكل خاطئ، وخصوصاً عندما ديّن الدولة، اضافة الى الهندسات المالية التي اجراها، بأكلاف وفوائد باهظة، وكذلك اخلّ بمسؤوليته بمراقبة ​المصارف​ ومنعها من هدر اموال المودعين، عبر الإقدام على مراهنات ومخاطر بها، بل شجعّها على ذلك.

المسؤول الثالث، هو المصارف التي فرّطت بأموال المودعين.

المسؤول الرابع، من هرّبوا اموالهم الى الخارج بعد 17 تشرين، ومصارف هرّبت ودائعها وارباحها الى الخارج.

وتبعاً لهذه الملاحظات والمسؤوليات، يفترض أن تأتي المحاسبة، لكل الفاسدين والمفسدين، كلٌ على قدر ما اقترف، وليس ان تُحصر هذه المحاسبة فقط في مصرف لبنان وحده، عبر إقالة حاكمه بطريقة كان يمكن ان تؤدي، في اللحظة الانهيارية الحالية لليرة، الى عواقب اكثر مما هي وخيمة اليوم، ومن دون تعيين بديل عنه يحظى بمقبولية شاملة ولا يشكّل عنصر استفزاز لا للداخل ولا للخارج، الّا اذا كان القصد الخفي من هذا التطيير، هو تجهيز حاكم مصرف لبنان لتقديمه كبش فداء، وليس من باب التصحيح، بل من باب استغلال اقالته وجعلها جسر عبور لتعيين شخصية بديلة عنه محسوبة على طرف سياسي معيّن، وهناك من تحدث في الايام الاخيرة عن اسماء تدور في فلك رئيس الجمهورية و»التيار الوطني الحر».

الى متى تأجّل قرار الاقالة؟

في تقدير معنيين بهذا الامر، قد لا تطول المسألة اكثر من اسابيع، ولكن هناك رأياً يقول، انّ رياض سلامة قد يوفّر عليهم ذلك ويبادر الى الاستقالة سريعاً. وهناك رأي آخر يعتبر انّ استقالته تعني انّه يستسلم ويسلّمهم رقبته بسهولة، ولذلك لن يُقدم عليها حتى ولو كان متيقناً من انّ وجوده على رأس مصرف لبنان اصبح غير مستقر وغير ثابت. الّا انّ ثمة في المقابل من يقول انّ الاوراق التي يملكها سلامة في يده منذ سنوات طويلة، قوية جداً، وبالتالي لن يسلّمهم رقبته بسهولة، ومن بين هذه الاوراق ما يمكن ان تقلب الطاولة على بعض الرؤوس..

يبقى انّ المشكلة ليست بإقالة الحاكم او تعيين بديل عنه، بل تكمن في انّ البلد دخل فعلاً في مسار طويل من الخضّات السياسية والاقتصادية والمالية، ليس في المكان تقدير مداه ، ولا الأثمان الباهظة التي سيدفعها اللبنانيون على كل المستويات.