بين من يعتبر أنّ ما يحصل في ​لبنان​ حاليًا هو إنطلاق لعربة مُكافحة ​الفساد​ ومُحاسبة الفاسدين من جهة، ومن يعتبر أنّ الأمر عبارة عن حملة إنتقام من فريق سياسي واحد من جهة أخرى، فارق كبير! وبين من يعتبر أن ما يحصل على الأرض هو عبارة عن أعمال شغب مَدسوسة ومُحرّكة من قبل قوى سياسيّة مُتضرّرة من الإصلاح، ومن يعتبر أنّ ما يحصل هو عبارة عن ثورة جياع حقيقيّة ستأكل الأخضر واليابس، فارق كبير أيضًا! فما الذي يحصل، وكيف ستتطوّر الأمور؟.

الفريق الذي يَعتبر أنّ ​مسيرة​ الإصلاح بدأت، وأنّ إجراءات إقتلاع الفساد وتوقيف الفاسدين إنطلقت، يؤكّد أنّ هذه الإجراءات لا بُدّ من أن تبدأ من مكان ما، بحيث لا يصحّ القول عنها بأنّها تستهدف فئة أو شخص أو حزب، إلخ. ولا يستغرب هذا الفريق ما يحصل من ردّات فعل سياسيّة وإعلاميّة عنيفة، بحيث يُدرجها في خانة مُحاولة القوى المُتضرّرة من الإصلاح ومن المُحاسبة، إثارة الغُبار، لتعمية الرأي العام، ولإنقاذ نفسها من خلال إعادة إحياء تموضعات سياسيّة وطائفيّة ومذهبيّة ضيّقة. ويؤكّد هذا الفريق أنّ ما يحصل على الأرض غير بريء، وهو عبارة عن إستغلال رخيص لأوجاع الناس، ومُحاولة مُفضوحة لدفع الناس الناقمة على الطبقة الفاسدة والتي ستكون أوّل من سيستفيد من الإصلاح، إلى القيام بأعمال شغب من شأنها أن تضيّع البُوصلة وأن تُفشل مسيرة الإصلاح ومُكافحة الفساد في مهدها.

في المُقابل، إنّ الفريق الذي يعتبر أنّ ما يحصل ينطلق من كيديّة سياسيّة واضحة، ويهدف إلى إلغاء فئات سياسيّة مُحدّدة، في ظلّ إنقلاب التوازنات الداخليّة والإقليميّة والدَوليّة التي كانت سائدة منذ العام 2005 حتى اليوم، ينطلق من تبريره المَذكور بأنّ الهجمة الإصلاحيّة لا تستهدف سوى جهات مُحدّدة دون سواها من قوى وأحزاب وفاعليّات فاحت رائحتها من الصفقات بشهادة الكثيرين، وهي تترافق مع حملات سياسيّة وإعلاميّة واضحة ضُدّ فريق سياسي دون سواه، والأخطر أنّها مُحرّكة من خلف الستار من قوى سياسيّة تُمسك حاليًا بمفاصل ​الدولة​ التنفيذيّة كافة، وتحديدًا بالحُكومة. ويؤكّد هذا الفريق أنّه غير مسؤول عمّا يحصل في الشارع، بغضّ النظر عن حجممُؤيّديه الذين يُشاركون في الإحتجاجات، ويُبرّر ذلك بالقول إنّ الشغب إستهدف بشكل خاص ​المصارف​، بحيث من غير المَنطقي الدفاع عنها وتحطيمها من قبل الجهة نفسها! ورأى هذا الفريق أنّ الناس ناقمة على كل الطبقة السياسيّة دون إستثناء، وهي تتحرّك من مُنطلقات فقر وبطالة وجوع، وليس من أيّ خلفيّة سياسيّة أو طائفيّة.

وبين هذا الرأي وذاك، لا شكّ أنّ لبنان يعبُر في الوقت الراهن مرحلة مفصليّة في تاريخه، علمًا أنّ تجارب مُكافحة الفساد التي حصلت خلال العُقود القليلة الماضية، فشلت كلّها في بداياتها، بمُجرّد تسييها وتطييفها ومذهبتها. واليوم، أيّ خطأ في هذا الإتجاه سيُؤدّي إلى النتيجة نفسها بالتأكيد، الأمر الذي يستوجب من ​الحكومة​ الحالية عدم ترك المجال لأي تفسير غير صحيح لإجراءاتها الإصلاحية، وتلك الخاصة بمُكافحة الفساد وإستعادة ​الأموال المنهوبة​. صحيح أنّ الإصلاح يجب أن ينطلق من مكان ما، لكنّ الأصحّ أنّ هذا المكان يجب أن يكون خاليًا من علامات الإستفهام، وإلا نجح الفاسدون في تحويره وإسقاطه، عبر اللجوء إلى الحماية السياسيّة والطائفيّة والمذهبيّة، عبر تقليب مُناصريهم ولعب دور الضحيّة، في حال كان الإصلاح يستثني أيّ فئة. ويُمكن لإطلاق الإصلاح من داخل البيت السياسي نفسه للحكومة–إذا جاز التعبير، أن يؤمّن الدعم الكامل لها من كلّ المواطنين، وأن يسحب مظلّة الإستهداف السياسي والديني عن المُتضرّرين.

من جهة ثانية، إنّ الرأي العام الغاضب يجب أن يُحسن توجيهبُوصلته، لأنّ أعمال الشغب لا تأتي سوى بنتائج عكسيّة، وهذه الأعمال لا تُخفّض بالتأكيد الأسعار، ولا تؤمّن فرص العمل، ولا توقف الهدر أو تكافح الفساد، إلخ. كما أنّ إستهداف عناصر ​الجيش اللبناني​ و​قوى الأمن​ الرسميّة، غير مقبول ولا مُبرّر تحت أي ذريعة، خاصة وأنّ هؤلاء العناصر الذين يتقاضون رواتب زهيدة، هم الضمانة الوحيدة الباقية لإستعادة دولة المُؤسّسات في لبنان، ولحماية ​الشعب اللبناني​ بكامله، وهم غير مسؤولين على الإطلاق عمّا وصلت إليه الأمور من تدهور.

في الختام، إنّ مُكافحة الفساد مَطلوب وهو محلّ إجماع، بينما الإنتقام السياسي مَرفوض وسيَسمح بهروب الكثير من الفاسدين بغطاء سياسي حينًا وبغطاء طائفي ومذهبي حينًا آخر. وبالتالي، الأكيد أنّ لبنان أمام فرصة سانحة لمُحاربة الفساد والفاسدين، على أمل أن يُحسن القيّمون إدارتها، حتى لا تسقط في بدايتها – كما حصل في تجارب سابقة!.