هل هي الصدفة أن ينشغل الإقليم بأزماته على وقع تنفيذ خطة "​صفقة القرن​"؟ لم يُجمع الباحثون على جواب واحد، بإعتبار أن تلك الأزمات الإقليمية ليست وليدة الساعة، سواء العسكرية منها التي تمتد إلى سنوات مضت منذ بدأت ثورات "​الربيع العربي​"، او التي هي بفعل صراع النفوذ الإيراني-الخليجي، أو المعيشية التي تدرّج فيها العجز والعوز بفعل عوامل تداخلت فيها طبيعة النظم الإقتصادية الريعية غير المنتجة، مع الفساد، مع الخلافات السياسية، كما حال لبنان مثلاً.

لكن لم يستبعد أي مراقب أن تكون ​الولايات المتحدة الأميركية​ ومعها ​إسرائيل​، على الأقل، يوظّفان نتائج مستجدات الإقليم لصالح تل أبيب المنشغلة بمخطط ضم اراض واسعة من ​الضفة الغربية​ في ​فلسطين​ إلى دولتها العبرية، وما يعني ذلك الضم من تهجير وإستيطان وتغييرات ديمغرافية تدفن عملياً ​حق العودة​ ترجمة لبنود "صفقة القرن". ومن يعتقد أن الصفقة ماتت، أو تحتضر بمجرد نهاية ولاية الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​، فهو مخطئ، لأن روحية الصفقة هي قناعة إسرائيلية-أميركية، بغض النظر عن شخصية رئيس الولايات المتحدة او رئيس الوزراء الإسرائيلي. مما يؤكد أن الأهداف الإسرائيلية لا يحسمها موقف واشنطن آنياً، ولا تكون جزءاً من مفاوضات أميركية مع أي دولة عربية أو إيرانية أو تركية او أوروبية. بالنسبة الى الدولة الأميركية العميقة، ومحركي الحزبين الديمقراطي والجمهوري، إن مصلحة إسرائيل قبل اي إعتبار آخر.

لكن إضعاف ​سوريا​، وإشغالها بأحداثها، عسكرياً ثم إقتصادياً، نتيجة دعم المسلحين فيها، ثم حصارها ومحاولة عزلها، هو حيّد دمشق عن أولوية الإهتمام بالقضية الفسطينية. كما أن الضغوط التي تُمارس على "محور المقاومة" هي تهدف لشل قدراته في القيام بأي فعل ميداني مناهض لمخطط إسرائيل في الضم والقضم. ومن هنا تأتي الحرب الأميركية-الإسرائيلية على "​حزب الله​" رغم ثبات قواعد الإشتباك بينه وبين الإسرائيليين، لكن العقوبات المالية الأميركية، ورصد تحركات الحزب أو إستهداف سياراته، كما حصل في منطقة جديدة يابوس السورية منذ أيام، ثم ردّ الحزب على تلك الخطوة في عملية قص الشريط الحدودي جنوب لبنان، في رسالة واضحة لتوازن الردع المتبادل، كلها تضع الحزب في مساحة الإشغال الدائم.

تأتي كل المعطيات وسط إهتزاز الساحة اللبنانية، التي يمكن تصنيفها بأنها البيئة الأساسية لحزب الله التي يهمه أن تكون مستقرة لا عبث فيها ولا أزمات. فهل تدرّج الضغوط على لبنان يهدف لحشر الحزب في زاوية الأزمة اللبنانية؟.

في السنوات الأخيرة الماضية توقف ضخ المال السياسي العربي الى لبنان، ثم توالت الأنباء عن تحويل متمولين كبار اموالهم من لبنان الى الخارج، في ظل توقّف شخصيات سياسية ومالية عن دفع أموال لأنصارهم في لبنان، بالتزامن مع زيادة العقوبات الأميركية على شخصيات شيعية متمولة، ثم أتت قضية بنك الجمّال لتتوّج تلك المرحلة من الضغوط. اوحى المختصر لتلك المعطيات أن المطلوب هو فرض العوز في لبنان لرفع صوت الناس، ورمي الكرة في ملعب "محور المقاومة"، والإيحاء بأنه المسؤول عن الأزمة الإقتصادية. تأتي التصريحات السياسية الآن، معطوفة على مواقف بعض المتظاهرين ضد "حزب الله" ترجمة للسيناريو المذكور. فهل المطلوب فقط إشغال الحزب بأزمة لبنان المعيشية وعدم التفاته الى ما يجري فلسطينياً؟ أو ان المطلوب ايضاً فرض تنازل لبناني في موضوع الحدود الجنوبية البحرية؟ كله وارد كما يوحي تدرّج عناوين الأزمة. ليأتي السعي الى خلق اشكال داخل الطائفة الشيعية لافتاً في توقيته، وكأن المطلوب إستيلاد نزاع في كل مساحة وزاوية ومكان يرتبط بفعل المقاومة للمشروع الإسرائيلي.

بجميع الاحوال، سيتفرغ اللبنانيون لمعالجة الأزمة، ولا قدرة لهم على رفض شروط صندوق النقد الدولي، التي تأتي قاسية عليهم في ظروف صعبة. وكأنّ أمر الخلاص اللبناني هو بين سيناريوهين: اما رضوخ لمطالب الأميركيين تحقيقاً للمصلحة الإسرائيلية، واما استجابة لشروط صندوق النقد الدولي القاسية. في الحالتين هناك اثمان كبيرة ستُدفع. وفي الحالتين ايضاً تمضي إسرائيل في تنفيذ مخطط "صفقة القرن" بظل غياب العرب وتطاحن الإقليم في أزماته العسكرية والاقتصادية. فمن يتجرأ من دول الاقليم على ترك مشاكله الداخلية والتفرغ لمواجهة إسرائيل؟ لا أحد قادر على فعل ذلك الآن. وحدهم الفلسطينيون قادرون على ضرب أسس الخطة على أرضهم: فهل يُقدمون وهم عُزّل؟.