إنسدَلَ السِّتارُ القانُونيُّ، ووُضِع يسوعُ في القبر. جَلَسَ الكاتبُ الرُّومانيّ يُدَوِّنُ في سِجلّاتِه: نُفِّذَ الحُكمُ. ولكِن هل حَقًّا انتَهَت مسرحِيَّةُ اليَهودِ الكاذِبَة؟ الجَوابُ تَتَناقَلَهُ الأَجيالُ، وهَا نحنُ نَقُول: المَسيحُ قام، حقًّا قام.

ما الّذي حصَلَ بينَ مساءِ الجُمعةِ وصبَاحِ الأَحد؟ لِنتَعَرَّفْ على هذهِ الخَلِيَّةِ الحَيَّةِ النَّابِضَةِ بِعرق القَائم، والتي تُخَصِّصُ الكَنيسةُ ذِكراها في الأحد الثّاني بعد الفِصح: حَامِلاتُ الطّيب، ويُوسُفُ الرّاميّ، الّذي كان تلميذًا في السرّ، ونيقوديموس الذي زار الرَّبَّ ليلًا.

هَؤلاءِ لم يَترُكُوا يَسوعَ، بَل شَهِدُوا صَلبَهُ، وكان في داخِلِهم شيءٌ أبعدُ مِنَ الحَدَثِ المَنظُور.

ما سِرُّ هذا الـ"ما بَعد Au-delà" الّذي كان يُلهِبُ قلوبَهم؟.

لم يرتَاحُوا ارتِياحَ السَّبتِ اليّهودي، بل كانُوا في حَالَةِ تَأهُّبٍ ليَنطَلقُوا إلى "مَا بعد" اليَومِ السَّابع، ألا وهُوَ اليَوم الثّامن، هذا اليَومُ المَلَكُوتِيّ الّذي افتتَحَهُ الرَّبُّ بِقِيامَتِهِ كَزمَنٍ قِيامِيٍّ جَديد لا نِهَايةَ لَه.

تَمَّ التّكفِينُ مَساءَ الجَمعة على عَجلٍ ولَيسَ كَمَا يَجِب. فقد جَرتِ العَادَةُ عِندَ اليَهُودِ أن يُغسَلَ المَيتُ ويُطَهَّرُ بِالحَنوطِ والأَطيابِ، ثُمَّ يُلَفُّ بالكَتَّانِ (الكفَنِ) الأَبيضِ فيُوضَعُ بينَ طَيَّاتِهِ الأَطياب، ومِن ثَمَّ يُدخَلُ القَبرَ بَعد أن يُنثَرَ عليهِ التُّراب.

لم يتحقَّقْ كلُّ هذا لأّنَّ السَّبتَ يبدَأُ مَعَ غُروبِ شَمسِ يَومِ الجُمعة، فوُضِعَ الرّبُّ في قَبرٍ جَديد.

ذَهابُ النِّسوةِ إلى القَبرِ صَباحًا بَاكرًا هُوَ قرارٌ قِيامِيّ، فَكُلُّ الأبوابِ كانت مُغلَقَةً في وَجهِهم.

لم يردَعْهُنَّ حجرُ القبرِ، فأكملنَ سيرَهُنَّ دونَ خَوفٍ أو تَردُّد. الاستِقبالُ كان نُورانيًّا بامتياز. ملاكَانِ بِلِباسٍ بَرَّاق، الرَّبُّ نفسُهُ كلّمَ مريمَ المَجدليِّةَ، وكان قَد سَبَقَ ذلك لِقاءٌ بينَ الرَّبِّ ووالِدَةِ الإلهِ بِحَسبِ مَا نُرَتِّل: "إن الملاكَ تَفوَّهَ نحوَ المُنعَمِ عليها (لاحظوا المُنعَم عليها)، أيَّتُها العذراءُ النقيّة افرحي، وأيضًا أقول افرحي، لأن ابنَكِ قد قامَ مِن القبرِ في اليوم الثالث".

وهنا لا بُدَّ مِنَ التَّوقُّفِ عِندَ كلِمَةٍ قديمةٍ جِدًّا نستعمِلُها في مَراسِمِ المَوتِ، وقد نَجهَلُ مَعنَاها الأَصلي، وهي جنّاز.

كلمة "جنّاز" في الأَصلِ ساميّةٌ، وتَعنِي المَكانَ في الهَيكلِ الّذي تُحفَظُ فيهِ الأسفارُ المُقدَّسَةُ المُهترِئَةُ لِكثرَةِ استِعمَالِها، لِيُحافَظَ علَيها ولا تُدنَّسَ كونُها مُقدَّسة.

ففي كُلِّ مرَّةٍ نُقيمُ فِيها جُنَّازَ الرَّبِّ يَسوعَ المَسيحِ أَتَذَكَّرُ هَذا المَعنى. مَا أعظَمَك يا رَبُّ، فَقد أَعطَيتَ لِهَذِهِ الكَلِمَةِ بِدَفنِكَ وقِيامَتِكَ معنىً قِياميًّا.

صحيحٌ أنَّكَ حُفِظتَ في قبرٍ لأنَّكَ مُقَدَّسٌ، إلّا أنَّكَ حَافِظُ المَسكونَةِ جَمعاء، لأنَّكَ حَيٌّ بِطبيعَتِكَ الإلهِيَّةِ، ولم يَعترِكَ اهتِرَاء. كَما أَتذَكَّرُ الإفشين الّذي نَختُمُ بِهِ تَحضيرَ الذَّبيحَةِ في صَلاةِ السَّحَر: "لقد كنتَ في القبر بالجَسَدِ، وفي الجَحيمِ بِالرُّوحِ بِما أنَّكَ إلهٌ، وفِي الفِردَوسِ مَعَ اللّص، وعَلى العَرشِ مَعَ الآبِ والرُّوح، أيُّها المَسيحُ المُنَزَّهُ عَن أن يَكُونَ مَحصُورًا". كُلُّ هذا لأَنَّ طَبيعتَهُ الإلهِيَّةَ لَم تُفارِقْ طَبيعتَهُ البَشرِيَّة.

وأسألُ نَفسي، تُرى مَن هُوَ المَائتُ أنتَ أم أنا؟ طَبعًا سأبقَى مَائِتًا إن لم أَمُتْ عن ذَاتِي وتُقيمُني أنتَ. عَجيبٌ أنتَ يا إلهَنَا. نَحمِلُكَ لِنُزَيِّحَكَ وأنتَ مَن يَحمِلُنا ويرفَعُنا. وكُلُّ ما نفعَلُهُ إن لم يَكُن مَجبولاً بِنُورِ القِيامَةِ يَبقَى تُرابِيًّا.

حَامِلاتُ الطَّيبِ مَوجوداتٌ أمامَنَا دائمًا عَلى المَائِدَةِ المُقَدَّسَةِ، وذَلِكَ على قِطعَةِ قِماشٍ تُدعَى "انديمنسيἈντιμήνσιον" أي بَدَل المَائِدة، مرسُومٌ علَيها المَسيحُ مُمَدَّدًا مَائِتًا، ووالِدَةُ الإلهِ والقِدّيسُ يُوحنّا الإنجيليّ، ويُوسُفُ الرَّاميّ، ونِيقوديموس ونِسوةٌ ومَلائِكَةٌ يُحيطُونَ به.

هَذِهِ القِطعَةُ نفسُها تُشبِهُ "الإيبيتافيون"الّذي نُزَيِّحُهُ يَومَ الجُمعةِ العَظيمة، على تَرتِيلَةِ "أيُّها المُتَردِي النُّورَ كالسِّربال"...

هُنا قِمَّةُ الجَمالِ، إذ إنَّ كَلِمَةَ إيبيتافيون اليونانيّة Επιτάφιος / Επιτάφιον، مُؤلَّفةٌ من ἐπί بمعنى فَوق أو بعد، وτάφος بِمعنى قبر. فَبدلَ أن يُشيرَ القَبرُ إلى المَوت، باتَ يُشيرُ إلى النُّورِ، لأَنَّ المُطَيَّبَ فيهِ"هُو"نُور.

هذا هو لاهُوتُنا، نُورانِيُّ قِيامِيٌّ، فَمَعَ حامِلاتِ الطِّيبِ نَقول: أتَينَا إِليكَ يا رَبُّ لِنُطَيِّبَكَ، فَطيَّبْتَنا بِنُورِكَ، وانتَشلْتَنا مِن قَبرِ ظُلمَةِ خَطايَانا. فالمَجدُ لَكَ يا رَبُّ المَجدُ لَك.