ينشغل اللبنانيون بأزماتهم الإقتصادية والمعيشية، ولا يكترثون للعناوين السياسية الغائبة داخلياً، والحاضرة ضمناً إقليمياً ودولياً. لكن هناك شخصيات سياسية لبنانية ترتبط بعلاقات جيدة مع الأميركيين تتحدث في جلساتها الضيّقة عن ضغوط غربيّة هائلة لفرض تنازلات لبنانية قبل موعد الإنتخابات الأميركية:

أولاً، إجبار لبنان على ترسيم الحدود جنوباً مع ال​إسرائيل​يين بمسار كان يقترحه الأميركيون.

ثانياً، موافقة لبنان على عدم مشاكسة ​صفقة القرن​ وعدم الإعتراض على الخطوات الإسرائيلية التي تبدأ قريباً في ضم اراضٍ من ​الضفة الغربية​ لإسرائيل.

ثالثاً، إقفال المعابر الحدودية غير الرسميّة بين ​لبنان وسوريا​، بهدف منع "​حزب الله​" من التنقّل بين البلدين، او نقل معدّات او أسلحة عبر الحدود. بما يعني تلبية الشروط الإسرائيليّة لإجهاض تمدد "حزب الله".

رابعاً، دفع ​الحكومة اللبنانية​ لتبنّي خطوات يطلبها ​صندوق النقد الدولي​، الذي لن يوافق على طلبات لبنان الماليّة في حال لم تعطه واشنطن الضوء الأخضر. فهل تقتصر تلك الشروط على العناوين المالية التقنية؟. لا يجب إستباق قرار الصندوق الدولي رغم الخشية الموجودة في لبنان من وجود مضامين سياسية في شروط الصندوق.

لماذا يجري الحديث عن اشهر فاصلة؟ يتمحور مضمون الجواب حول موعد الإنتخابات الأميركية في شهر تشرين الثاني المقبل، الذي من المحتمل أن يشهد على فشل الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ بالبقاء في ​البيت الأبيض​، فتتغير الخطط الأميركية في ​الشرق الاوسط​، وتحديداً بشأن صفقة القرن التي هي صنيعة ترامب وصهره جاريد كوشنير. ومن هنا تسارعت خطوات تل أبيب لتنفيذ مضمون المبادرة، وجرى التوافق الحكومي الإسرائيلي سريعاً لبت هذا العنوان. لكن الحديث السياسي يتمدّد لإستحضار عناوين أخرى ذات أبعاد متناقضة: أولاً، هناك رغبة أميركية بسحب الفاعلية العسكرية من العراق، سوريا، السعودية ودول أخرى، وقد بدأت واشنطن بتنفيذ تلك الخطوات عملياً. في الوقت الذي أظهر تولي ​مصطفى الكاظمي​ رئاسة الحكومة العراقية رضا أميركي واضح، فشكّل نقطة تقاطع أميركية-​إيران​ية بموازاة محاولة تنظيم "داعش" إعادة فرض قوّته وسطوته في مناطق عراقية تشكّل بيئة حاضنة وملاذاً آمناً له. ومن هنا يتحدث المقرّبون من الأميركيين في لبنان عن مصلحة إيرانية-عراقية ببقاء ​الجيش الأميركي​ في وجه الدواعش، خشية من توجّه التنظيم الإرهابي لإعادة إستنهاض قوّاته في حرب مفتوحة مع العراقيين وأنصار إيران وخصوصا ​الحشد الشعبي​ الذي يعيش إنقساماً مؤذياً لحضوره الميداني.

ثانياً، يحضّر الأميركيون مشاريع قرارات لسحب الغطاء عن وجود ​القوات​ الدولية في ​جنوب لبنان​، وسيناء المصرية، بهدف تخفيف التكاليف الماليّة ووضع المنطقة أمام التسويات المطلوبة اميركياً مع الإسرائيليين. بالمحصّلة، سيتراجع الحضور العسكري الأميركي، فمن سيملأ الفراغ في ​الشرق الأوسط​؟ تبدو روسيا جاهزة رغم الإرث الثقيل الّذي يتركه الأميركيون خلفهم في دول مأزومة. بالأساس، لم يعد القرار الأميركي متفرّداً، بل صار الروس شركاء بالحد الأدنى. لكن ​موسكو​ تلتقي مع واشنطن حول "وجوب خلق صفقات او تجميد نشاط جبهات بين الإسرائيليين من جهة، واللبنانيين والسوريين و​الفلسطينيين​ من جهة اخرى". لذا، يُعتبر هذا العنوان هو أبرز التباينات بين الإيرانيين والروس. موسكو لا تريد جبهة مشتعلة ولا تغيير قواعد الاشتباك التي كانت قائمة في ​الجولان​، وقد يكون هذا الملف محور اختلاف جوهري في وجهات النظر الروسية والسورية الذي أفضى الى بلبلة إعلامية في الأسابيع الماضية. علماً أن الأميركيين المغادرين طلبوا من الروس عدم بقاء الإيرانيين و"حزب الله" على ​الأراضي السورية​، لإجهاض تمدّد نفوذ "محور ​المقاومة​". في وقت حشد الروس مزيداً من الدبابات والأسلحة في سوريا، فهل هي لخوض معارك إدلب ضد الإرهابيين فقط؟ تبدو المهمّة العسكريّة أبعد من ملفّ إدلب، وتعني تشديد القبضة الروسية في الإقليم انطلاقاً من سوريا. لكن الروس المرتبطين بإتفاقيات إقتصادية مع ​تركيا​، لن يُغضبوا أنقره، ولا ​طهران​، ولا حتى الرياض، ولا تل أبيب بطبيعة الحال. هم يرتبطون بعلاقات طيّبة مع كل متناقضات الإقليم. وهنا تكمن أهمية الدور الروسي. لكن ترسيخ الحضور العسكري هو باب الثبات السياسي والدبلوماسي في منطقة مشتعلة.

حتى الساعة، تبدو السيناريوهات مفتوحة على كل الإتجاهات في أشهر صعبة فاصلة، سيرسّخ فيها الروس تواجدهم الإستراتيجي في الشرق الأوسط، بينما يتدرج الأميركيون في الإنسحاب الميداني من دون سحب يد واشنطن من ملفات الإقليم.