منذ انطلاقة الحكومة الحاليّة برئاسة حسّان دياب، لا يكاد يمرّ يومٌ من دون أن تثبّت فيه قوى المعارضة المفترضة لها، "ارتباكاً" في التعاطي معها، وهو ما يردّه كثيرون إلى "عجز" هذه القوى عن الانسجام والتناغم في مقاربة الملفّات والقضايا الشائكة الأساسيّة، المتعلّقة بعمل الحكومة، وكيفيّة معارضتها.

لم يظهر ذلك جلياً في اللقاء الوطني الماليّ الأخير الذي عُقِد في ​قصر بعبدا​ فحسب، والذي قيل إنّ مَن شارك فيه من المعارضة، فعل ذلك "نكاية" بمن قاطعه، ولكن ظهر قبله وبعده في الكثير من المحطات، قد يختصرها "ربط النزاع" الذي لجأ إليه بعض المعارضين في التعامل مع الحكومة، تارةً تحت عنوان حقّها بمهلة سماح، وطوراً بذريعة انعدام البدائل.

قد تكون الصورة الوحيدة المُعاكسة لهذا التوجّه، ظهرت بعد الخطاب الأخير للأمين العام لـ "​حزب الله​" ​السيد حسن نصر الله​، والذي أعاد فيه إلى التداول "نغمة" التنسيق مع سوريا، "نغمة" بدت أقرب إلى "خدمة مجانية" لم تتردّد قوى المعارضة في تلقّفها، ربما لكونها أعادت إليها "الحنين" إلى أيام "العزّ"، يوم اجتمعت تحت سقف معارضة النظام السوري، ورفض "التطبيع" معه بأيّ شكلٍ من الأشكال.

"طموح" مشروع؟!

في خطابه الأخير، استعاد الأمين العام لـ"حزب الله"، من "الأرشيف"، ملفّ العلاقة مع الحكومة السورية، في غمرة الاستحقاقات التي يواجهها لبنان هذه الأيام على كلّ المستويات، ولا سيما في ضوء الملفّات الصحية والمالية والاقتصاديّة التي تؤرق اللبنانيّين، على اختلاف وتنوّع انتماءاتهم السياسيّة.

عرّج نصر الله على هذا الموضوع، من باب ملفّ "التهريب الحدوديّ"، تزامناً مع اجتماعٍ ل​مجلس الدفاع الأعلى​ كان مخصّصاً لبحثه في قصر بعبدا، ليخلص إلى أنّ لبنان لا يمكنه بمفرده معالجة هذا الملفّ الشائك، وأنّ هذا الأمر يتمّ "بالتعاون بين الدولتين والجيشين على طرفي الحدود"، ما يعني أنّ "التعاون الثنائي مع سوريا" هو "وسيلة المعالجة"، قبل أن يؤكد أنّ سوريا "جاهزة بدرجة كبيرة".

قد لا يكون عرض نصر الله مفاجئاً أو مُستغرَباً، خصوصاً أنّ فكرة "التطبيع" مع الحكومة السورية لم تغب يوماً عن "أجندة" قيادة "حزب الله"، لاعتقاده أنّ فيها "فوائد" جمّة للبنان، خصوصاً على صعيد اقتصاده، انطلاقاً من "التلاصق" الجيو-استراتيجي بين لبنان وسوريا، إن جاز التعبير، علماً أنّ دولاً لا "مصلحة" لها بتاتاً مع سوريا سبقت لبنان في "الانفتاح" على قيادتها، كما فعلت الإمارات مثلاً أخيراً، حين أعلِن عن اتصالٍ أجراه وليّ عهد أبو ظبي محمد بن زايد آل نهيان بالرئيس السوري بشار الأسد، ولو رُبِط الأمر بالدواعي "الإنسانية" التي تسبّب بها تفشّي وباء كورونا عالمياً.

ولعلّ ما يعزّز وجهة النظر هذه، أنّها ليست المرّة الأولى التي يعلن فيها "حزب الله" بوضوح "طموحه" المشروع، ربما، بفتح الطريق أمام "تطبيع" العلاقات مع السوريين، والذي يرى كثيرون أنّه يشكّل "مطلباً" للنظام بالدرجة الأولى، الباحث عن أيّ مساحة من شأنها تعزيز "شرعيّته". وإذا كانت العديد من المحاولات بُذِلت في هذا الصدد في زمن الحكومات الماضية، من دون أن تنجح في ​تحقيق​ الغاية المنشودة، فإنّ عوامل عديدة تدفع "الحزب" إلى إعادة التجربة اليوم، في ظلّ حكومةٍ تُحسَب محلياً ودولياً عليه، وقدّم لها بعض "التضحيات" على غرار القبول باللجوء إلى ​صندوق النقد الدولي​، على رغم كلّ ما يعتبرها "محظورات".

لا للتطبيع!

صحيحٌ أنّ ثمّة من يعتبر "توصيات" نصر الله بمثابة "أوامر" للحكومة، كونه المتحكّم بأمرها، بل "الآمر الناهي" فيها، كما يحلو لبعض خصومه القول، ولو تظلّلت بعباءة "تكنوقراط" تبدو وهميّة إلى حدٍّ بعيد، وصحيحٌ أنّ هناك من تسرّع في "الاستشراف" انطلاقاً من ذلك، وصولاً إلى الحديث عن زيارةٍ مرتقبةٍ لرئيس الحكومة حسّان دياب إلى سوريا في القادم من الأيام، إلا أنّ الأصحّ من هذا وذاك أنّ مثل هذا "المشروع" لا يزال يصطدم بالعديد من "العوائق"، على رأسها عدم قدرة الحكومة على "تحدّي" ​المجتمع الدولي​ في هذا الوقت، وهو بأمسّ الحاجة إلى أيّ مساعدةٍ يمكن أن تُمنَح له لتحقيق خطة "الإنقاذ"، التي لا يبدو أنّ طريقها فُرِشت بالورود، بعيداً عن "البروباغندا" التي حرص المحسوبون على "العهد" على الترويج لها بعيد إقرارها في ​مجلس الوزراء​.

ولعلّ ما يعزّز هذا "المنطق"، أنّه، وبُمعزَلٍ عن الأسباب الموجبة التي يقدّمها "حزب الله"لترتيب العلاقة مع سوريا،ومدى صحّتها،فإنّ ​السياسة​ تبدو الغالبة في أطروحات القوى المعارضة، التي تتلاقى على أنّ "التطبيع" مع النظام السوري مرفوضٌ جملةً وتفصيلاً، باعتبار أنّ من شأنه زيادة "العزلة" اللبنانية وليس العكس. ويغمز الدائرون في فلك المعارضة، في سياق دحض "نظرية" الانفتاح الكونيّ على سوريا، من قناة قانون "قيصر" الذي أطلقته الولايات المتحدة الأميركية للضغط على النظام، والذي سيدخل حيّز التنفيذ الشهر المقبل، وهو قانون لا يعزّز فقط "مساءلة" النظام تحت عنوان حماية المدنيين، بل يذهب إلى حدّ فرض المزيد من العقوبات على كلّ المتعاونين معه أو الداعمين له.

وفي وقتٍ لا يبدو هؤلاء المعارضون مقتنعين بالحُجّة المُعلَنة لإعادة طرح فكرة "التطبيع"، عبر ربطها بمعالجة ملف التهريب عبر الحدود، فإنّ "المفارقة" التي يشيرون إليها أنّ كلام نصر الله جاء تزامناً مع اجتماعٍ أمنيّ في بعبدا خُصِّص للغاية نفسها، ما أفرغه من مضمونه، باعتبار أنّ نصر الله حسم النقاش بعدم جدوى أيّ إجراءٍ يمكن أن تلجأ إليه السلطات لا يتضمّن "الانفتاح" على النظام السوري، وفي ذلك "إحراج" للحلفاء قبل الخصوم. وأبعد من ذلك، ثمّة من يرى أنّ الخصوم، على العكس من ذلك، "ممتنّون" من فتح النقاش في هذا الوقت، باعتبار أنّه يشكّل نقطة "قوة" لرئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​ في "عزّ" الضغوطات الممارَسة عليه من الأقربين والأبعدين، وهو الذي سبق أن أعلن أنّه لن يكون رئيس الحكومة الذي "ينفتح" على النظام السوري، وصدق بذلك، ما "رحّل" البحث بالموضوع إلى حين المجيء بحكومةٍ أخرى مناهضةٍ له.

المصلحة أولاً!

قد يكون الأمين العام لـ"حزب الله" نجح في "توحيد" المعارضين، في مفترقٍ بات "نادراً" في التعاطي مع الأحداث والملفات، في وقتٍ باتت بعض المعارضة تفضّل "البكاء على أطلال" ما يسمّيه بعض مكوّناتها "الزمن الجميل"، بدل العمل على ترتيب الصفوف لمواجهة استحقاقات المرحلة الحاليّة، على حساسيّتها وخطورتها، بالتي هي أحسن.

لكنّ الأكيد أنّ لا نصر الله أراد بذلك تقديم "خدمة مجانية" لمعارضيه، ولا أنّ هؤلاء المعارضين سينجحون في تلقف هذه "الخدمة" و"اقتناصها" لتسجيل الأهداف في مرمى الحكومة أو غيرها، لأنّ "المصلحة السياسية" وحدها لا تزال "طاغية" على كلّ ما عداها، وهي التي تتحكّم بالجميع، من موالين ومعارضين، وما "بين بين"، أو الطامحين لحجز موقعٍ "وسطيّ" في المعادلة.

هكذا، لن يكون ملفّ "التطبيع" مع سوريا سوى حلقة أخرى من سلسلة الملفّات الخلافية، التي لم يعد لها طائل، أكثر من "إلهاء" اللبنانيين ربما، وصرف نظرهم عن الأزمة الكبرى التي تكاد تطيح بهم، والتي تتحمّل مسؤوليتها الطبقة السياسية مجتمعةً، بشقّيها الموالي والمعارض، مهما حاولت أن تجاهر بخلاف ذلك!.