منذ مئة عام ترسّخت معادلة: فقراء ​لبنان​ يتسوّقون من ​سوريا​، وأغنياء سوريا يتسوّقون من لبنان. لم تستطع لا العقود الزمنية، ولا المراحل السياسية على إختلافها في البلدين، ولا كل الضغوط الدولية من نسف تلك المعادلة. لا بل زادت الحروب والحصار والأزمات التي شهدتها الدولتان من الحاجة إلى تلك المعادلة.

عندما كانت الدولة السورية تحتج على أيّ تصرف سياسي لبناني، كان يكفي ان تلوّح دمشق بورقة إقفال الحدود أو منع التصدير اللبناني عبر وإلى أراضيها، فيسارع لبنان الى معالجة المشكلة بشكل غير قابل للتأجيل. تكررت تلك المحطّات منذ الأربعينيات، وصارت عُرفاً في التعامل بين "شقيقين".

لكن قوى سياسية لبنانية واظبت على شنّ حملات ضد دمشق، تبعاً لتحالفات وظروف كل مرحلة، وهي تتجانس الآن مع ضغوط دولية تحت عنوان "وقف التهريب" بين البلدين. لكن حل مشكلة التهريب لا يكون بإجراءات أمنية، بل بتنسيق لبناني-سوري مشترك. التجارب علّمت اللبنانيين ألاّ إمكانية لحسم اي ملف مشترك بين البلدين الجارين، إلاّ من خلال التعاون السياسي، لا الأمني فحسب، بين دمشق وبيروت.

متى توقّف التهريب القائم منذ فصل البلدين عن بعضهما قبل قرن من الزمن؟ لم يتوقف يوماً، وإتخذ اشكالا وسبلا متنوعة، عبر أفراد، ثم شبكات وُجدت بالتزامن مع ولادة لبنان الكبير.

واذا كانت قوى لبنانية تتحدث حالياً عن تهريب مادة المازوت أو القمح من لبنان الى سوريا، بسبب الحصار الغربي على دمشق، فإن تهريب تلك المواد كان ناشطاً من سوريا الى لبنان طيلة العقود الماضية. يوم كان اللبنانيون يتقاتلون بين بعضهم، تحاصر شواطئهَم سفنا عسكرية أجنبية في الثمانينات، كانت سوريا هي المنفذ الجغرافي الوحيد، وسوق الفقراء اللبنانيين الذين اعتادوا على الذهاب من البقاع الى دمشق وحمص في مشاوير يومية بسيطة، هي أسهل لهم وأكثر توفيراً من أسواق لبنان. أو من الشمال اللبناني الى حمص وطرطوس واللاذقية. بالمقابل، كانت ولا زالت أسواق لبنان في زحلة وشتورا وبيروت خصوصاً، هي مقصد الاغنياء والميسورين السوريين. ترسّخت وبقيت تلك العادات يتوراثها جيل عن جيل في البلدين.

امّا عمليات التهريب فهي ليست امراً جديداً ولا كارثياً على حدود اي بلدين في كل دول العالم: لم تستطع مثلاً الولايات المتحدة الأميركية منع التهريب بينها وبين المكسيك. ولا ​العراق​، ولا تركيا وجاراتها. هنا كان لبنان دوماً هو المستفيد من تهريب المواد الغذائية والصناعية السورية الى أراضيه، بسبب الوفر المالي الذي يحقّقه المواطن. نشطت شبكات التهريب بين البلدين، بحسب السوق، إلى ان وصلت لتهريب المازوت الى سوريا الآن، مقابل إدخال عملة الدولار الى لبنان ثمن هذه المادة.

أذكر شخصياً في الثمانينات عندما كنت ازور بلدة والدتي في النبي شيت البقاعية، كنت أشاهد ارتال البغال محمّلة لتشقّ طريقاً جبلية وعرة تقود الى سرغايا السورية، كان يومها اللبنانيون في تلك المناطق البقاعية يعتمدون على المازوت السوري لتأمين حاجياتهم، يوم كان الحصار ايضاً يمنع دخول عود الكبريت الى دمشق، بينما كانت مناطق لبنان مقطّعة الاوصال طيلة ١٥ سنة. فلم يستطع اللبنانيون تأمين الصمود المعيشي لولا الأسواق السورية التي كانت تؤمن حاجات أهالي بعلبك الهرمل من محافظة حمص. بينما كانت دمشق متنفس قضاءيْ زحلة والبقاع الغربي.

في كل المراحل إستطاع المهرّبون ان يضبطوا التوازن المجتمعي، وحين أرادت الدولة السورية ضبط عمليات التهريب بالإتجاهين دفعت الأثمان في القلمون والزبداني وريف حمص، بزيادة الأزمة التي بدأت عام 2011.

لا يعني كل ذلك ترك الحدود البرّية مشرّعة للمهربين، لكن عدم ترك متنفس للمواطنين في الاتجاهين سيزيد من حجم القلق الشعبي المعيشي، خصوصا في لبنان الذي يئن من ضغوط إقتصادية هائلة، ويتحضّر لإجراءات ​صندوق النقد الدولي​ المؤلمة، لا سيما اذا كان هدف الذين يقفون خلف الصندوق سياسياً، لخنق مشروع ​المقاومة​ عبر التضييق على البيئة الحاضنة ل​حزب الله​.

الحل يكمن اولاً بإعادة تمتين العلاقات اللبنانية-السورية جدّياً: تبدأ بزيارة رئيس الحكومة ​حسان دياب​ الى دمشق، ولا تقتصر على وزراء معنيين. ما المانع من زيارة دياب الى الشام؟ ماذا ينتظر؟ وهل يترقّب خطوة رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ التي طال إنتظارها تجاه دمشق منذ أن أصبح رئيساً؟ فليعد الى تجربة رئيس الحكومة الراحل ​رشيد كرامي​، الذي كان عائداً من مؤتمر لوزان عام ١٩٨٤، فتوجه مباشرة الى دمشق، للتأكيد على محوريتها كلاعبة طبيعية في الملعب اللبناني. وحين رجع كرامي الى ​طرابلس​، حصل اجتماع بينه وبين سبعة من أركان الفيحاء، كان منهم قياديون في حركة "التوحيد الإسلامي" التي قاتلت الجيش السوري بشراسة في الشمال. وحين سمع كرامي انتقاداً لزيارته وعلاقته بدمشق، رد عليهم: لا حياة لنا كلبنانيين من دون سوريا ايّاً كان نظامها. لم يتنازل كرامي يومها عن مصلحة لبنان، ولم يساير أحداً في بيئته طرابلس، ولم يقلق من أي ردة فعل، ولم يضعف امام كل الضغوطات الداخلية والخارجية، ولم يتراجع عن قناعته بشأن وجوب تمتين علاقات لبنان بسوريا. يومها كانت الضغوط على لبنان أشد بأشواط مما هي الآن: كان البلد مشتّتاً منقسماً على نفسه، والقوات العسكرية الغربية تحاصر شاطئه بأساطيل في البحر تقصف ساعة تشاء. يومها ايضاً كان المرض ينهش بالجسم اللبناني، ويفتّت عناصره المدنية والعسكرية، السياسية والشعبية، الإقتصادية والمعيشية. كانت الميشليات تتحكم بالساحات اللبنانية المتناقضة. رغم ذلك، لم يقبل كرامي تجاوز الجغرافيا ولا القفز فوق حقائق التاريخ. لا بدّ لتلك المعادلة ايضاً أن تسود الآن: القوى الدولية مهما كانت قوّتها تخسر عادة أمام القوى الإقليمية. لأن الأولى تمر مروراً عابراً، بينما تبقى الثانية راسخة في أرضها وبيئتها.

من هنا تتوجّب سرعة الخطوات الحكومية اللبنانية في ترسيخ تعاون لبناني-سوري، سياسياً وأمنياً وإقتصادياً ومعيشياً. عندها فقط تستطيع الحكومة اللبنانية الحد من عمليات التهريب، وضبط الخسائر المالية والشعبية.

من دون التعاون المشترك لا قيمة لكل الإجراءات لأنها ستولّد ارباكاً لبنانياً تصاعدياً في مناطق عدة، تبدأ من وادي خالد شمالاً ولا تنتهي في مجدل عنجر بقاعاً. ولا نبالغ اذا قلنا ان نجاح الحكومة اللبنانية، مرهون بتنسيق مع سوريا، لا بل ان تثبيت دياب لنفسه رئيساً صلباً للحكومة يكمن بزيارة دمشق. والاّ سيكون مروره على السراي عابراً. التاريخ أكبر معلّم.

​​​