يعاني لبنان من إنهيار إقتصادي متدرّج ينحو بإتجاه الإنفجار الإجتماعي. وإذا كان النقاش الحكومي يجري مع ​صندوق النقد الدولي​ بشأن خطة إقتصادية تعارضها ​المصارف​ المركزي والخاصة، و​الهيئات الإقتصادية​، فإنّ الدوران يحصل في فنجان لبناني: ماذا لو رفض الصندوق الدولي خطة لبنان؟ ماذا لو حاول فرض شروط سياسية واقتصاديّة قاسية؟ ما هي البدائل؟ كل الخبراء والعارفون يؤكّدون أنّ الإستناد الى ​الزراعة​ و​الصناعة​ وحده ينتج بلداً متمكّناً اقتصادياً لإحداث توازن في الميزان التجاري، من خلال الموازاة بين الإستيراد والتصدير. يستورد لبنان حالياً بقيمة عشرين مليار دولار، مقابل تصدير بقيمة ثلاثة مليارات دولار سنوياً، علما ان جزءاً من الصادرات اللبنانية هو ذهب مصنّع بعد استيراده من الخارج، مما يقلّل من وزن الصادرات ويعمّق حجم الخلل في الميزان التجاري.

وإذا كان اللبنانيون هبّوا الآن نحو الزراعة في ظل مساع واضحة لرفد هذا القطاع بدعم لا يستقيم الا برفع ميزانياته المالية، فإن الركن الاقتصادي الآخر هو الصناعة. هنا يسعى وزير الصناعة ​عماد حب الله​ الى دعم هذا القطاع، رغم الأزمات المالية التي يعاني منها الصناعيون جرّاء تجميد حساباتهم المصرفية مما أصابهم بشلل سيزيد من مصاعب الإنتاج المتواضع أساساً.

يطالب الصناعيون بمؤازرة ودعم رسمي مفقود منذ عقود، لكن المستغرب ان يقع المواطنون ضحية صراعات ذات ابعاد سياسية وطائفية ومناطقية ومصالح. كما يحصل الآن في ​عين دارة​ في قضاء الشوف. قادنا السجال الحاصل في الأسابيع الماضية عبر بيانات حادة صادرة عن جهتين: صناعية و"هيئة مدنية" إلى البحث عن ملف عالق، رغم جدواه الإقتصادية. تشكو "​إسمنت​ الأرز" من تجميد تنفيذ المجمّع الصناعي في جرود عين دارة "لأسباب سياسية"، بإعتبار ان المشروع نال موافقات وتراخيص كاملة من الوزارات ومؤسسات الدولة، وأحكاماً قضائية مبرمة، لكن أصحابه يحمّلون رئيس الحزب "التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط مسؤولية فرملة العمل في "مشروع تنموي" يحتاج إليه لبنان. بينما هيئة "المبادرة المدنية في عين دارة" ترى أنّ المجمّع الصناعي يطال محميّة أرز الشوف، وهو أمر ينفيه الصناعيون "بسبب بُعد المجمّع عن المحمية عشرات الكيلومترات، علما ان أرض المجمّع ملكية خاصة وهي ارض جرداء لا حياة فيها ولا أشجار ولا نبات ولا ماء، بحسب دارسة الأثر البيئي التي أجريت هناك، وكانت ركيزة للتوجه نحو إعطاء التراخيص القانونية للمجمع".

يبدو أنّ وزارة الصناعة تضع ثقلها الآن لإكمال تنفيذ المشروع الذي يشغّل أكثر من ألفي عامل، ويُنتج مواد صناعية يمكن تصديرها إلى ​سوريا​ و​العراق​ ودول أخرى، خصوصاً عند بدء إعمار سوريا الذي سيكون عاجلاً أم آجلاً. مما يعني أن مجمعاً صناعياً بهذا الحجم سيُدخل العملات الصعبة التي يحتاجها لبنان في كل زمان.

يعترض جنبلاط ومعه "المبادرة المدنية" تحت عنوان "بيئي شعبوي جذّاب"، لكن يقول الصناعيون: اذا كانت الاعتراضات تطال كل مشروع صناعي، فكيف يمكن إنقاذ ​الاقتصاد اللبناني​؟ ولماذا بالأساس أعطت الدولة اللبنانية التراخيص لمجمّع، ثم قطّعت معدّاته ومنعت العمل فيه منذ عام ١٩٩٩؟. هنا بدا ان الدعاوى القضائية التي ربح فيها الصناعيون أحكاماً قضائية مبرمة حتّمت دفع تعويضات لم تُدفع، و"هي تتراكم وتقود الى المحاكم الدولية". لا تريد وزارة الصناعة ان يدفع البلد الثمن مرتين نتيجة تجميد المجمّع الصناعي: مرة جرّاء تعويضات مالية، ومرة بسبب الخسائر الصناعية التي تجرّ مزيداً من الويلات على البلد. فما هو الحل؟.

يصرّ المعترضون كما توحي بياناتهم على نسف المشروع، مستندين الى "إخبارات قضائية"، يقول عنها الصناعيون "إنها مجرد إخبارات لا يمكن أن تتفوق أو تنسف الأحكام المبرمة". واذا كانت "المبادرة المدنية" تتحدث عن ضرائب غير مدفوعة للدولة، يتحدى بالمقابل الصناعيون في بياناتهم أن يكون عليهم أي تكليف او ضريبة مالية غير مدفوعة.

وبين اعتراض متواصل من "التقدمي الاشتراكي" و"المبادرة المدنية"، وإصرار الصناعيين على وضع التجميد أو الاعتراض في خانة "النكايات السياسية ومحاولات الإبتزاز"، فإن البلد يدفع الثمن إنطلاقاً من عين دارة التي كأنها باتت بين خيارين: مطمر نفايات مطروح إنشاؤه، أو مجمّع صناعي في جرودها. تنتصر وزارة الصناعة للمجمّع إستنادا الى "أحقيته وقانونيته وفعالية إنتاجه المرتقب"، بينما تُصبح مقاربة تعطيله ذات بعد سياسي، الخطير فيه أن الصناعيين أصحاب المجمّع وضعوه في مساحة إستهداف المسيحيين. يقول أحد بياناتهم: بعد محاولة إستهداف الارثوذكس القائمة، تأتي محاولة ضرب الكاثوليك من خلال منعهم من إقامة مشروع صناعي تنموي على ملكية خاصة ووفق القانون. فهل تتفرّج الحكومة؟ أم تسعى لإنقاذ الصناعة "عبر بدء عمل مجمع شبيهة معدّاته البلجيكية والألمانية بمعامل صناعية موجودة في وسط فرانكفورت"؟.

يبدو أن الأزمة التي تطال قطاع الصناعة لا تقتصر على مجمع واحد، ولا حول انتاجات محددة، بل يشكو الصناعيون من تراكم أزمات المصارف التي يدفعون اثمانها يوميا، فيما تلوّح معامل ومصانع بتسريح عمالها بسبب العجز عن دفع رواتبها. وهو ما يسعى وزير الصناعة جاهدا الى تجنّب حصوله عبر اجراءات ومحاولات مؤازرة الصناعيين بكل ما أوتي من صلاحيات وقوّة. كي لا تصبح اي مجمعات صناعية مشاريع منسية او مطامر نفايات.