لا يُعتبر الكلام عن الفيدراليات في الإقليم جديداً. سبق وتم طرح أفكار التقسيم والتوزيع والفدرلة بمراحل عدة. لكن تخفي خلفها الآن دوافع ورغبات دولية واضحة:

اولاً تسعى الإدراة الأميركية الحالية إلى تلبية مطالب ​إسرائيل​ية ترتكز على تشتيت جغرافيات الإقليم، بعد نسف شمل الشعوب فيه. يحاول المشروع ان يحاكي إلى حد ما "إسرائيليات" عدة من حيث التقوقع الديني او الطائفي او المذهبي او العرقي. المهم هو الاّ يبقى اي عنوان قومي أو ديني أو سياسي يجمع عناصر الإقليم، بل المطلوب هو حصول سباق او صراع دائم بين تلك المكونات التي قد يلجأ بعضها الى التحالف مع ​تل أبيب​، كما يفعل كرد ​العراق​ مثلاً.

ثانياً، تقلّب الغرب في دوافع الدعم الذي قدّمه لفئات الإقليم. كان الإيرانيون في عهد الشاه حلفاء للإسرائيليين والأميركيين، كما إطمأن الغرب للدولة التركية، فيما كانت ظروف ​الدول العربية​ تتغير، الى ان رست بعد رحيل الرئيس المصري جمال عبدالناصر ودخول القاهرة وعمّان و​السلطة الفلسطينية​ بمحادثات سلام مع تل أبيب انتجت معاهدات واتفاقيات عدة. فيما بقيت دمشق عصية على التطويع، ومعها ​لبنان​ منذ سقوط اتفاق ١٧ أيار.

ثالثاً، بالنسبة الى الإسرائيليين، زادت الخشية من بقاء جبهتها الشمالية مفتوحة على حروب تزداد خطورتها مع توسّع خبرة وتسليح القوى المنخرطة في "محور ​المقاومة​" ضدها. ومن هنا يأتي إصرار الإسرائيليين على نسف شبكة "​الصواريخ​ الدقيقة" التي يملكها المحور المذكور، تمهيداً لضرب عناصر القوة عند مناهضي المشروع الإسرائيلي الساعي الى دعم إنشاء تلك الإسرائيليات.

رابعاً، حاولت تل أبيب تأسيس كيانات في ​سوريا​، وخصوصا في جنوب دمشق. لكن تحالف السوريين مع الروس وكل "محور المقاومة" افشل المشروع التقسيمي في سوريا، رغم الأجندات المختلفة بين ​موسكو​ و​طهران​.

خامساً، لم يكن الغرب حينها مقتنعاً بتفلت الإقليم، بل سعى الى تحقيق الشروط الإسرائيلية من دون إدخال المنطقة بمشهد ضبابي. المطلوب لم يتغير بفرض تطويع سوريا ولبنان عبر كل الوسائل والضغوط.

سادسا، يسعى الروس لعدم تفلت الإقليم ايضاً، من خلال إمساك العصا من منتصفها، وفرض موسكو لنفسها عامل توازن إقليمي أساسي. هذا ما يحصل من خلال محاولة الروس إبقاء العلاقات قائمة مع كل الأطراف والقوى في الإقليم وخصوصا الإسرائيليين والأتراك والايرانيين.

سابعا، كما فعلت طهران بتوسيع نفوذها الإقليمي تحاول ​تركيا​ ان تلعب الدور نفسه في سوريا ولبنان و​ليبيا​ واليمن والخليج. فإذا حصلت الفدرلة تكون انقره ضمنت لها مساحات حليفة واسعة واستراتيجية.

ثامناً، يقتنع الأميركيون ان الضغوط الإقتصادية هي آخر الاوراق لفرض اذعان "محور المقاومة" وتحقيق الاتفاقيات بين ادارته وبين إسرائيل ووضع ​صفقة القرن​ في خانة الأمر الواقع بكل ما تتضمن تلك الخطة من عناوين وتفاصيل.

لكن لا تكفي كل تلك الدوافع والوقائع لفرض الرغبات الأميركية او الإسرائيلية، لأن المعطيات توحي بأن نفس الغرب قصير: ماذا لو حلّت إدارة أميركية ديمقراطية ونسفت كل مشروع ترامب؟ هناك من يقول بأن الافكار الأميركية الحالية ليست وليدة ادارة ترامب بقدر ما هي مصلحة تل أبيب في كل زمان. ستحاول إسرائيل ان تفرضها في اولويات عمل اي إدارة اميركية. صحيح هذا التصور، لكن إستعادة محطات السنوات الماضية تؤكد أن ليس كل ما تريده ​واشنطن​ هو قدراً محتوماً.

سبق وسقطت مشاريع بالجملة على أبواب دمشق وبيروت. الفارق الخطير الآن أن العنوان الإقتصادي هو الوسيلة المؤلمة حالياً. سيسعى الأميركيون الى اتخاذه ذريعة لرفد تعميم القلق، ثم الفوضى المضبوطة، والتلويح الدائم بأوراق التقسيم والفدراليات. وعلى هذا الأساس يبدو ان مسار الأزمات مفتوح ولا يتوقف عند انتخابات أميركية ولا طبيعة عمل وتوجهات الرئيس الأميركي الجديد، ولا عند تقدم الروس ولا الصينيين على حساب الغرب في الإقليم. هنا يُصبح رهان قوى داخلية مجرد سراب.

فليكن الماضي عبرة يوم كان الإسرائيليون في بيروت عام ١٩٨٢، يومها كانت الظروف في بلد ممزق. او سوريا في اعوام 2012 حتى 2016: كانت المجموعات المسلحة في بعض ارياف المحافظات السورية خصوصا في الجنوب تقيم تحالفا وتنسيقا مع تل أبيب التي حمت وجود تلك المجموعات طويلا.