صحيح أنّه على المُستوى العالمي، صرنا اليوم أقرب من أيّ وقت مَضى إلى التعايش مع حرب باردة عالميّة جديدة، بين ​أميركا​ و​الصين​، لكنّ الأصحّ أنّه على المُستوى الإقليمي نعيش حربًا ساخنة-ولوّ بالوكالة، بين الولايات المُتحدة الأميركيّة من جهة، والجُمهوريّة الإسلاميّة ال​إيران​يّة من جهة ثانية. ولأنّ "​حزب الله​" المَدعوم بالكامل من قبل طهران، هو رأس حربة في هذا الصراع، يتحدّث الكثيرون عن أّنّ ​لبنان​ يدفع اليوم الثمن باهظًا نتيجة هذا التموضع السياسي-الإستراتيجي الذي جرّه إليه "الحزب". فهل هذا صحيح؟.

في ذكرى تحرير لبنان من ​الجيش الإسرائيلي​، لا يستطيع أحد أن ينكر الدور الذي لعبه "حزب الله" في تسريع تحقيق هذا الإنجاز. ولا يستطيع أحد أن ينكر المكانة المَرموقة التي يحتلّها "الحزب" في نُفوس الكثير من مُحبّيه ومن مُؤيّديه الذين لا يقبلون أي تعرّض له ولسياساته. لكن في المُقابل، ومع إحتفاظ "حزب الله" بسلاحه بعد التحرير، وتحوّله إلى العمل الأمني على المُستوى الإقليمي-بدعم كامل من إيران، أدخل "حزب الله" لبنان في لعبة المحاور الإقليميّة والدَوليّة، بشكل تجاوز دور تحرير الأرض ودور حماية الحُدود، الأمر الذي ترفضه شريحة لا بأس بها من ​الشعب اللبناني​. وبغضّ النظر عن الخلاف السياسي الداخلي، بين من يؤيّد إحتفاظ "الحزب" بسلاحه، بإعتباره "مصدر قُوّة للبنان، ومصدر تهديد رادع لإسرائيل"، ومن يدعو "الحزب" إلى تسليم سلاحه للجيش اللبناني، باعتبار أنّ "لا قيام لدولة قويّة ومُنصفة لكلّ أبنائها، مع إستمرار واقع الدويلة المُسلّحة داخل الدولة"، فإنّ علاقات لبنان مع العالمين العربي والغربي، تأثّرت سلبًا بسبب سياسة "الحزب" وتموضعه، وبنتيجة قتاله خارج حُدود لبنان، وتدريبه ودعمه لجماعات مُسلّحة بعيدة جغرافيًا عن لبنان.

وفي هذا السياق، إتخذت العديد من الدول العربيّة، لا سيّما الخليجيّة منها، ممّا تعتبره وُقوع السُلطة في لبنان تحت قبضة نُفوذ "الحزب"، وكذلك مما تعتبره تدخلاً سياسيًا وإعلاميًا في شؤونها، وحتى تدخلاً أمنيًا في بعض الحالات، ذرائع مُتكاملة لوقف أيّ مُساعدات ماليّة للدولة اللبنانيّة، في الوقت الذي يُعاني فيه لبنان من أزمة إقتصاديّة–ماليّة خانقة، وهو بالتالي في أمسّ الحاجة لأيّ شكل من أشكال الدعم الخارجي. وبلغ الأمر ببعض الدول الخليجيّة حدّ مُقاطعة لبنان سياحيًا، وخفض مُستوى الإهتمام بما يحصل فيه من تطوّرات، إلى مُستويات مُتدنّية. وعلى خطّ مُواز، إتخذت الدول الغربيّة، لا سيّما منها تلك التي تدور سياسيًا في الفلك الأميركي، من سلاح "الحزب" ومن أنشطته العسكريّة والأمنيّة والإستخباريّة خارج الحدود اللبنانيّة، حججًا لمُمارسة ضُغوط دَوليّة عدّة، أدّت إلى تجميد أي مُساعدات للبنان. وبلغ الأمر ببعض الدول الغربيّة، وفي طليعتها ​الولايات المتحدة​ الأميركيّة، حدّ السعي لخفض ميزانيّة القوّات الدَوليّة العاملة في الجنوب، ما يعني في حال حُصوله، خفض عديد هذه القوّات وتعديل مهمّاتها(1)، وكذلك حدّ التلويح بوقف المُساعدات العسكريّة للجيش اللبناني في بعض الحالات، ولوّ أنّ هذه الرسائل وصلت إلى لبنان بأساليب غير مُباشرة وعبر قنوات غير رسميّة.

واليوم، إنّ خطّة النُهوض التي وضعتها الحُكومة الحاليّة، تُعوّل في جزء أساسي منها، على قروض ماليّة من جانب صُندوق النقد الدَولي، وعلى مُساعدات وقروض ماليّة من دول عربيّة وغربيّة صديقة للبنان. والشُروع في تسريب مَعلومات عن إحتمال ربط أيّ نوع من المُساعدات المُستقبليّة للبنان، بوقف تدخّلات "حزب الله" الخارجيّة، وبفكّ نُفوذه ضُمن السُلطة اللبنانيّة، لا يدعو إلى التفاؤل، حيث أنّ تحوّل هذه التسريبات، وربّما الإشاعات، إلى حقائق مَلموسة، يعني حُرمان لبنان من أيّ مُساعدة خارجيّة مُمكنة، ويعني حُكمًا حرمان لبنان من أيّ أمل بالخروج من الأوضاع الإقتصاديّة والمَعيشيّة والحياتيّة الصعبة التي يتخبّط بها.

وخلال الأيّام القليلة الماضية، جرى الربط بين ما يتعرّض له لبنان من ضُغوط بسبب "حزب الله"، وبعض التصاريح التي صدرت على لسان مسؤولين في "التيّار الوطني الحُر" بشأن "الحزب"، قبل أن تأتي التوضيحات على أعلى المُستويات لتؤكّد إستمرار التحالف الإستراتيجي بين الجانبين، وأن ما حصل لا يتجاوز توصيف لوقائع تارة، وتوجيه رسائل بشأن مخاطر عدم دعم "التيّار" سياسيًا تارة أخرى، حيث أنّ "التيّار" لا يتبنّى الضغوط الداخليّة والخارجيّة المُمارسة على "الحزب" بأيّ شكل من الأشكال.

وفي كل الأحوال، لا شكّ أنّ نظرة الشعب اللبناني إلى "حزب الله" ستبقى مَقسومة، بين من يعتبره بطلَ تحرير لبنان من الإسرائيليّين... ومن يعتبره السبب في توريط لبنان في الصراعات الإقليميّة والدَولية وعزله عن أصدقائه في العالم. وهذا الخلاف لا يُغيّر في واقع الأمور، لجهة أنّ "حزب الله" يُمثّل اليد اليُمنى لإيران في المنطقة، والعمود الفقري لكل "محور المُقاومة" إقليميًا، وبالتالي، طالما أنّ الصراع الأميركي–الإيراني لا يزال مفتوحًا، فإنّ لبنان سيبقى يدفع ثمن هذا الكباش، إلى أن تحصل التسوية للمنطقة ككلّ. وفي الإنتظار الذي قد يطول كثيرًا، هل يقدر لبنان على الصُمود والإستمرار؟ الإشارات الأوّليّة لا تُبشّر بالخير على الإطلاق...

(1) جلسة ​مجلس الأمن الدولي​ الحاسمة في هذا المجال مُرتقبة خلال شهر آب المقبل.