لم يأت الحديث عن ​الفيدرالية​ من فراغ ​لبنان​ي. ولا يأتي الكلام عن وجوب البحث عن بديل للنظام الحالي من عدم. بمعزل عن الأسباب التي تدفع كل فريق للترويج لقناعاته، فإنّ الأزمة العميقة التي يمر بها لبنان تسمح لكل جهة أن تصف العلاج لبلد مريض سياسياً ويحتضر إقتصادياً. فهل باتت التركيبة الطائفية في خطر؟ أم أن الترميم السياسي قادر أن يعيد لبنان الى سلوك طريق الإستقرار؟ .

لا ينفي أحد ضمنياً عدم جدوى النظام الطائفي القائم منذ تجاهل تطبيق اتفاق "الطائف". هذا التجاهل يُعتبر المسؤول الأول عن مصائب نزلت بالبلد على كل صعيد. وضع النظام الحالي هو الذي حمى الفساد بمنعه مقاضاة ومحاسبة الفاسدين. جرى تغطية كل الهدر بغطاء الحقوق الطائفية. لا نتحدث عن فريق واحد، ولا عن قطاع وحيد، بل ان التركيبة الطائفية هي التي شرّعت الفساد والهدر بحمايتها للفاسدين والذين أهدروا المال العام على أعين اللبنانيين أجمعين. لم تستطع تلك التركيبة الطائفية التي كرّسها النظام فرض مصلحة المواطن. صار اللبنانيون ضحايا نظام هش يحمي الناهبين الطائفيين ويمنع وصول الاكفّاء الوطنيين. هنا تبدأ معالجة أزمة لبنان.

لكن المعالجة الجوهرية غير واردة في هذا البلد الصغير الفقير، لأسباب تتعلق اولاً بطبيعة الديمغرافيا اللبنانية. قد تلوح حروب أهلية في حال الفرض بالقوة. هذا ما حصل سابقاً في مراحل تاريخية عدة منذ عام ١٩٢٠. لا بدّ إذا من التفاهم الوطني الشامل المطمئن لكل المكونات، لإعادة ترتيب البيت اللبناني ضمن اطار الوحدة لا التفرقة، لأن لبنان لا يحتمل التقسيم، ولا هو قادر على إرتداء ثوب الفدرلة. لكن لا مجال الآن لأي تفاهم جوهري بهذا الحجم، لإعتبارات ترتبط أولاً: بالبيئة الإقليمية المتأرجحة، وثانياً: بالقلق اللبناني المفتوح على التقوقع وعلى مزيد من الإرتماء بحضن خارجي.

يصحّ هنا فرض التسوية السياسية المرحلية القادرة على الإنقاذ. طرح سياسيون في الأسابيع الماضية إعادة تأليف حكومة جامعة كشرط "للإنقاذ": قيل إن تيار "المستقبل" لوّح بإسم النائب ​سمير الجسر​ رئيساً لها، لمنع وصول رئيس الحكومة الأسبق ​نجيب ميقاتي​ إلى السراي الحكومي مجدداً. رغم أن رئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​ يسعى لإعادة إمساك اللعبة الحكومية بعدما أخرج نفسه منها. لكن "الشيخ سعد" يخشى من وصول إثنين" ميقاتي والنائب ​فؤاد مخزومي​، وهو يقبل بوصول أيّ شخصية زرقاء لصد خصومه.

طُرح تعديلٌ حكومي همساً، ولم يتحول الأمر إلى جدّية فعلية بعد. لكن طرح إعادة لم الشمل بحكومة جامعة حصل فعلاً، وتظهّر بإتصالات ولقاء بين الحريري والمعاون السياسي للأمين العام ل​حزب الله​ ​حسين الخليل​. لم تنقطع الاتصالات بين الحريري والحزب اساساً. لا يزال "الشيخ سعد" هو الشخصية المفضّلة عند "​الثنائي الشيعي​" لإعتبارات الإرتياح للتعامل معه، فضلاً عن تزعّمه لتيار شعبي وازن. لكن الحريري يعاني حالياً من عدم وجود حاضنة خارجية له. لم تُظهر ​دول الخليج​ اي إهتمام بلبنان: لا السعودية ولا الإمارات. وحده إهتمام دولة الإمارات العربية ينحصر بالمسارين السوري والليبي لمواجهة التمدّد التركي. علماً أن أنقره توسّع نفوذها بكل إتجاه، وتصل ضمناً إلى لبنان. استطاعت ​تركيا​ ان تنجح نسبياً في ليبيا، وهي قريبة من تونس، والمغرب الذي تتواجد فيه أكثرية نيابية "إخوانية"، وقطر ركيزة تركيا في الخليج، وباكستان الذي قال منذ اشهر رئيس وزرائها عمران خان: لو ترشح الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في بلادنا لنال أكثرية الأصوات الشعبية للرئاسة في باكستان، إضافة الى اذربيجان وجيرانها، بينما تبدو علاقة أنقرة بأكراد العراق إستراتيجية يؤكدها حجم تصدير النفط من كردستان عبر مرفأ جيهان التركي بإتجاه دول العالم وإسرائيل.

كل ذلك يعزز من الدور التركي الذي لم يعد بالإمكان تجاوزه اقليمياً. فماذا لو ارادت انقره الإهتمام بلبنان ايضاً في ظل فراغ واضح في الساحة السنّية بغياب العرب الذي اعتادت عليهم كل من بيروت وطرابلس وصيدا؟ الجواب سابق لأوانه، سوى الاّ وجود لدور خليجي الآن، بعدما أبعدوا أنفسهم عن مؤازرة لبنان في أصعب محنة وامتحان يمر بهما هذا البلد الصغير، ربما بطلب او ضغط أميركي لإجبار لبنان على الرضوخ السياسي للقرارات الغربية.

بجميع الاحوال، يترقب لبنان مسار المرحلة بإنتظار علاج مرحلي يؤجل الكارثة العظمى، او يمنع سقوط البلد في المجهول النهائي. فهل يكون العلاج بتأليف حكومة شبيهة بحكومة عام ٢٠٠٥؟ بدأ الطرح يطل في مجالس واتصالات. لكن لا وجود لنتائج لا أولية ولا نهائية. قد يعمد رئيس الحكومة ​حسان دياب​ الى تسريع "إنجازات" حكومته للمواجهة البنّاءة، بدءاً من ​التعيينات​ التي تعطي زخماً له، شرط ان تكون التعيينات شاملة من دون تأجيل ولا تجديد ولا تمديد، مرورا بحل ازمة ​الكهرباء​ والاصرار على رفض معمل سلعاتا، وصولا الى وقف هدر المال العام. الكل يبدو في مرحلة الإمتحان.