برزت خلال الأيّام القليلة الماضية مجموعة من التصاريح والمَواقف التي تناولت أفكارًا وطرُوحات تنتقد صيغة الحُكم القائمة في لبنان، وتدعو إلى تغييرها، وحتى إلى نسفِها، بشكل أثار سلسلة من التساؤلات عن أبعاد هذه الأفكار والطُروحات، وعن خلفيّاتها وأهدافها، وكذلك عن الجهات الحقيقيّة التي تقف وراءها. فماذا يُمكن إيجازه عن هذا الموضوع؟.

بداية، من الضروري التشديد على أنّه يحق لأيّ حزب أو مسؤول أو مُطلق أي شخص في لبنان، طرح الأفكار التي يريدها، إنطلاقًا من حريّة التعبير المَكفولة في الدُستور، وطالما أنّ الطُروحات المَعروضة لا تنوي الإنقلاب على النظام القائم، أو فرض تغييرات بالقُوّة، بل بأسلوب ديمُقراطي. ولا يحقّ بالتأكيد لأيّ كان تخوين أيّ طرح، ووصف مُطلقيه بالعُملاء، كما حصل مثلاً عندما وصَف رئيس "الحزب التقدّمي الإشتراكي" ​وليد جنبلاط​ الداعين إلى الفدراليّة التي يُمكن أن تنقل لبنان–في حال أحسِنَ تطبيقها، إلى مصافي الدُول الراقية على غرار سويسرا مثلاً(1)، بالأصوات "العميلة"، مُتناسيًا أنّه هو نفسه كان خلال الحرب اللبنانيّة أفضل من طبّق كانتونًا مذهبيًا، وأنه بعد الحرب وتحديدًا خلال مُنتصف العقد الماضي، دعا جنبلاط بنفسه أمين عام "حزب الله" السيّد ​حسن نصر الله​، إلى "التفاهم على الطلاق" في خضمّ الإنقسام العمودي آنذاك، بين قوى "8 و​14 آذار​" السابقة! يُذكر أيضًا أنّ صيغ الحُكم الفدراليّة والكونفدراليّة المُتوفّرة في العالم، مُتعدّدة ومنوّعة جدًا، وبإمكان لبنان أن يُطبّق مثلاً، مُستوى أعلى من اللامركزيّة الإداريّة التي يُنادي الكثيرون في لبنان بها، من دون التخلّي إطلاقًا عن الدولة المركزيّة.

بالعودة إلى ما جرى إطلاقه من طروحات مُتناقضة من هنا أو هناك بالأمس القريب، فهو ليس بجديد، لكنّ ترداده على لسان أكثر من مسؤول، أثار العديد من التساؤلات بشأن الغايات المَنشودة منه، خاصة وأنّ الأفكار المُتناقضة والمُتضاربة رفعت مُستوى التوتّر السياسي الداخلي. وفي ما خصّ تموضع القوى السياسيّة من الطروحات المُتداولة في الإعلام، فهو على الشكل التالي:

"تيّار المُستقبل" هو من أكثر المُدافعين عن النظام القائم، والرافضين لأيّ تعديلات عليه، لأنّ التعديلات التي أدخلها "​إتفاق الطائف​" على الدُستور اللبناني، صبّت في صالح الطائفة السنّية. وعلى الرغم من أنّ الإتفاق المَذكور ينصّ على أنّ القرار التنفيذي يعود إلى "​مجلس الوزراء​ مُجتمعًا"، فإنّ التطبيق الميداني منح رئيس الحكومة السنّي، سُلطات واسعة لا يرغب السُنّة التخلّي عنها. ويُعتبر "الحزب الإشتراكي" من أبرز المُتمسّكين بإتفاق الطائف أيضًا، باعتبار أنّ حجم الطائفة الدُرزيّة العددي الحالي مُقارنة بباقي ​الطوائف​ والمذاهب، لا يسمح لها بلعب أيّ أدوار مركزيّة على مُستوى الحُكم، كما كانت الحال عليها أيّام "مُتصرّفية جبل لبنان" مثلاً. وبالتالي، إنّ أقصى ما يطمح له الدُروز في النظام الحالي، هو حفظ حُقوقهم ببعض المناصب الحسّاسة، وتطبيق بند إنشاء "مجلس الشيوخ" الوارد في إتفاق الطائف، ليكون برئاسة شخصيّة درزيّة. كما أنّ حزب "القوات اللبنانيّة" الذي كان في مراحل سابقة ومُتقطّعة خلال الحرب، من مُويّدي نسف صيغة العام 1943، ومن الطارحين لأفكار تقسيميّة جريئة(2)، تخلّى اليوم عن هذه الطُروحات، إنطلاقًا من الواقعيّة السياسيّة، وحفاظًا على علاقات صداقة بناها مع أكثر من دولة عربيّة وغربيّة لا تؤيّد هذا المنحى.

في المُقابل، يبدو "الثنائي الشيعي" من أكثر الراغبين بتغيير التوازنات الداخليّة، ولوّ أنّهم لا يُجاهرون علنًا بذلك. والمُفارقة أنّ هذا "الثنائي" يُمسك برئاسة مجلس النوّاب، من دون أن يسمح لأيّ جهة سياسيّة بالتدخّل في إنتخاب رئيس للمجلس خارج التوافق بين "حزب الله" و"​حركة أمل​"، في الوقت الذي يتمتّع فيه الثنائي نفسه "بالكلمة الفصل" في إنتخاب رئيس الجمهوريّة وفي تكليف رئيس أيّ حُكومة. أكثر من ذلك، أظهرت التجربة الميدانية منذ العام 2005 حتى اليوم، أنّ "الثنائي الشيعي" يُمسك بمفاتيح السُلطة التشريعيّة، حيث قام رئيس المجلس النيابي بإقفال أبواب المجلس في مراحل سياسيّة دقيقة، مُدخلاً هذه الورقة في بازار الصراعات الداخليّة اللبنانيّة. وتمكّن "الثنائي الشيعي" أيضًا من تثبيت إستحواذه على ​وزارة المال​، رافضًا مبدأ المُداورة على مُستوى المناصب الحسّاسة في السُلطة التنفيذيّة، بهدف الإحتفاظ بحقّ الطائفة الشيعيّة بالتوقيع على القوانين، بموازاة الحقّ المَمنوح لكلّ من رئيس الجمهوريّة ورئيس الحُكومة. ومنذ مدّة، تُلوّح جهات عدّة مَحسوبة على "الثنائي الشيعي" بورقة المُؤتمر التأسيسي، وبورقة إلغاء الطائفيّة السياسيّة، ليس من مُنطلقات تطويريّة للنظام، أو من خلفيّات علمانيّة على الإطلاق، بل لأنّ التوازنات السياسيّة الداخليّة والإقليميّة تصبّ في مصلحة "الثنائي" حاليًا، ولأنّ وهج سلاح "حزب الله" مَعطوفًا على أغلبيّة عدديّة للطائفة الشيعيّة، يفتح الباب أمام إحتمال تشريع تغييرات في النظام، تصبّ في صالح الطائفة الشيعيّة التي تجد نفسها في موقع قُوّة يفوق بكثير المناصب المُعطاة لها في النظام الحالي.

من جهة ثانية، إنّ "التيّار الوطني الحُرّ" الذي لم ينخرط في التركيبة السياسيّة الحاليّة عن تأييد لبنود "إتفاق الطائف"، إنما من مُنطلق الواقعيّة السياسيّة، لا يزال يطمح للتوصّل إلى تسوية تُعيد السُلطات والصلاحيّات التي جرى إنتزاعها من يد رئيس الجمهوريّة المسيحي الماروني، على الرغم من أنّ الأسباب والتوازنات التي أسفرت عن هذه النتيجة في العام 1990، صارت اليوم مُتجذّرة أكثر بعد مُرور أربعة عُقود، وبعد تحوّل المسيحيّين، بكل مذاهبهم، إلى أقليّة عددية تُشكّل 38 % من إجمالي الشعب اللبناني.

ويُمكن القول، إنّه لا توافق سياسي داخلي على أيّ من المواضيع المَطروحة حاليًا، بل تعصّب طائفي ومذهبي مُتزايد، ومُحاولات سيطرة سياسيّة ودينيّة مُتجدّدة، تحت عناوين برّاقة حينًا وبخلفيّة إصلاحيّة حينًا آخر. وفي الوقت الذي يُثير تغيير مذهب موظّف عادي في الدولة زوبعة لا تنتهي من الإصطفافات، يزعم الكثيرون أنّهم علمانيّو التفكير! وفي الوقت الذي يسعى فيه كل مذهب لتعزيز سُلطاته ولتقوية نُفوذه في الدولة، إن عبر إستخدام الأكثريّة العدديّة أو التلويح بالقُوّة أو حتى بلعب دور الضحيّة، إلخ. يزعم الكثيرون أنّهم مع الدولة المدنيّة ومفهوم المُواطنيّة والمُساواة بين الجميع! وفي الوقت الذي يسعى فيه كل مذهب إلى الإستقواء على الآخرين بتحالفات داخليّة وخارجيّة، يزعم الكثيرون أنّهم مع الدولة المركزيّة الواحدة والقويّة، إلخ.

بإختصار، إنّه زمن التكاذب اللبناني المُستمرّ، وزمن نارُ التعصّب المَذهبي المُستتر تحت الرماد... بعيدًا عن أيّ رغبة جدّية بتطوير النظام لما فيه مصلحة وخير الجميع، وبعيدًا أيضًا عن أيّ مُحاولة جدّية لقيام الدولة المركزيّة المُوحّدة والعادلة والمُنصفة لجميع أبنائها، بدون أيّ تمييز.

(1) سويسرا هي جمهوريّة فدراليّة تتكوّن من 26 كانتونًا، مع "برن" كمقرّ للسلطات الإتحاديّة.

(2) جرى التفكير جديًا بالفدراليّة في نهاية سبعينات القرن الماضي من قبل فريق عمل الرئيس الشهيد ​بشير الجميل​، قبل إنتخابه رئيسًا للجمهوريّة، وتخلّيه كليًا عن هذا الطرح، ثم في مُنتصف الثمانينات من قبل فريق عمل رئيس "القوات" آنذاك ​سمير جعجع​، قبل أن يتخلّى بدوره عن هذا الطرح كليًا قبل نهاية الحرب.