منذ أعلن الـجنـرال هنـري غورو دولة ​لبنان​ الكبيـر، بعد إعادة تـرسيـم الـحدود بيـن البلاد التـي كانت خاضعة للحكم العثـمانـي، ومن بينـها ​سوريا​ ومتصرفية ​جبل لبنان​، بـحسب إتفاقية "سايكس-بيكو"، بقيت الـحدود اللبنانية-السورية الــتـي تـمتدّ بطول حوالـي 375 كلم غيـر ثابتة ومـحدّدة بدقّة، الأمـر الذي تسبّـب بالكثيـر من تداخل الأراضي والـخلافات العقارية والأمنية وعمليات التـهريب.

فـي العام 1971، حاول البلدان توقيع إتفاق لـحلّ أزمة الـحدود، إلاّ أنّ الـمباحثات تعقّدت بسبب الـخلاف على تبعيّة مساحة نـحو 900 كيلومتـر مربع، تعتـبـرها كل من سوريا ولبنان من ترابـها الوطنـي.

ومع إندلاع الـحرب فـي سوريا عام 2011، زادت عمليات الــتهريب بنسبة كبيـرة جداً، نظراً إلـى حاجة السوريـيـن إلـى العملة الصعبة وإلـى أسواق لتصريف الإنتاج، بعدما أُغلقت أسواق عربية ودولية عدّة أبوابـها أمام البضائع السورية بسبب الـحرب والعقوبات الأميـركية.

تُستـخدم الـمعابـر غيـر الشرعية الـمقدّرة بأكثـر من 130 معبـراً، لتهريب السلع والـمنتجات الزراعية والـحيوانية والصناعية والـمخدّرات والـمحروقات والطحيـن و​السلاح​، وأيضاً البشر، من دون أن تنـجح السلطات اللبنانية فـي وضع حدّ لـهذه الظاهرة التـي تكبـر وتنـمو بشكل تصاعديّ. هذه الظاهرة تساهم فـي عـجز الـمالية العامة وتقليص الواردات، وتُـقدَّر خسائر ​الدولة اللبنانية​ نتيجة التـهريب بنـحو مليار دولار فـي ​السنة​.

فـي أيلول 2019، كشف وزيـر الدفاع آنذاك ​الياس بو صعب​ عن وجود 8 إلـى 10 معابـر غيـر شرعية ما زالت تعمل على الـحدود مع سوريا، وأنّ العمل مستـمرّ مع قيادة الـجيش للـحدّ من الـتهـريب على الـمعابـر الـمتبقّية تـمهيداً لإقفالـها نـهائياً، مؤكِّداً أنّ التـهريب الـحقيقي يتـمّ عبـر الـمعابـر الشرعية، وتـمّ الإتفاق "على ضبط ​الفساد​ وملاحقة الشركات والأشـخاص الذيـن يساعدون فـي العملية ولو كانوا من ​الأجهزة الأمنية​".

تغيّـرت الـ​حكومة​، ورحل الوزير بو صعب، وقبله الوزراء : ​يعقوب الصراف​، وسـميـر مقبل، وفايـر غصن... وبقيت الـحدود اللبنانية-السورية فالتـة، والـمعابـر غيـر الشرعية مشرّعة لكل أنواع البضائع والـمحرّمات.

جاءت السيدة ​زينة عكر​، أول إمرأة تتولـّى حقيبة الدفاع فـي لبنان و​الدول العربية​، مدعومة من تكتل "​لبنان القوي​" ورئيس الـجمهورية، وأعلنت خلال تسلّمها ​وزارة الدفاع​ أنـها وزيرة دفاع عن حقوق الشعب التـي هي حقوق وطن بكامله، وقالت : "أعلـم أنّ مـحاربة الفساد من مطالبكم الأساسية، وسأعمل لتـحقيق هذا الـمطلب" ... وطلبت من الشعب أن يراقبـها ويـحاسبـها.

مضى نـحو أربعة أشهر على تشكيل الـحكومة التـي وصفها رئيسها ​حسان دياب​ "فريق إنقاذ"، ولـم تـتـمكّن وزيرة الدفاع من إقفال معبـر واحد غيـر شرعي على طول الـحدود، و"حكومة الإنقاذ" لـم تـحرّك ساكناً حتـى اللـحظة فـي ملفّ التـهريب وخصوصاً الـمازوت والـطحيـن، وتتغاضى عن إستـنـزاف ما تبقّـى من دولارات لدى ​مصرف لبنان​ الذي يدعم هاتيـن الـمادتـيـن بتأميـن 85 فـي الـمئة من مـجمل قيمتـها ب​الدولار​ الأميـركي.

كما لـم يتوقّف الـهدر والتـهرّب الضريـبـي فـي الـمرفأ والـمطار وفـي الـمعابـر الشرعية. ولـم تتطرّق الـخطّة الإقتصادية التـي وضعتها الـحكومة لـهذه الفـجوات الكبيـرة ولـموضوع الإصلاحات فـي ​قطاع الكهرباء​ وتعيـيـن مـجلس إدارة جديد وهيئة ناظـمة، ولـم تأتِ على ذكر التوظيف غيـر الشرعي وعن إعادة هيكلة ​القطاع العام​، ولا عن مصيـر ​التشكيلات القضائية​ والـتـعيـينات الـمالية والرقابية.

فـي خضمّ البـحث عن حلول للوضع الإقتصادي والـمالـي، وبدء الـمباحثات مع ​صندوق النقد​ الدولـي، والـجدل القائم حول الـمعابـر بيـن ​لبنان وسوريا​، برز موقف ​السيد حسن نصر الله​ أكثـر وضوحاً وحـزماً من موقف حكومة دياب عندما قال : "إنّ لبنان لا يـمكنه وحده معالـجة هذا الـملفّ، بل أنّ الـحلّ يتطلّب التعاون بيـن الدولتـيـن والـجيشيـن على طرفـي الـحدود"، مُشدِّداً على أنّ "الـحديث عن قوات دولية على الـحدود مع سوريا أمر لا يـمكن القبول به على الإطلاق".

بـمعنـى آخر، التـهريب سيستـمرّ إلـى أجل غيـر مسمّى فـي حال لـم يـحصل التطبيع والتنسيق بيـن الـحكومتـيـن اللبنانية والسورية، وغيـر مسـموح ترسيـم الـحدود ولا ضبطها لأنّ ضبط الـحدود مع سوريا "يـخدم أهداف العدوّ الإسرائيلي" !

وقد ذهب "​حزب الله​" أبعد من ذلك إلـى حدّ إتـهام جـميع من يريدون نشر قوات "اليونيفيل" على الـحدود الشمالية والشرقية بأنـهم "يتآمرون على الـمقاومة" !

كيف يـمكن لـهذه الـحكومة أن تنجح فـي زيادة الواردات، وخفض عجز الـميـزانية العامة، والـحدّ من الـهدر والفساد، وتقليص النفقات العامة، وهي ليست قادرة على إقفال معبـرٍ واحدٍ، ومـحاكمة فاسدٍ واحدٍ، واستـرداد قرشٍ واحدٍ من اللصوص والناهبيـن ؟

إنّ إفلاس لبنان لـم يكن سببه يوماً عدم وجود خطط إقتصادية ومالية، بل عدم وجود مواطنة صالـحة، وسلطة قادرة ونظيفة، وأخلاق وضمائر ورجال.