حسناً… تمّ إسقاط مشروع قانون العفو عن العملاء الذين فرّوا عام ألفين مع جيش الاحتلال إلى الكيان الصهيوني الغاصب للأرض والحقوق العربية في ​فلسطين​ المحتلة… لكن مجرّد المطالبة بالعفو عن العملاء تكشف، بعد عشرين عاماً على انتصار المقاومة، وفي ظلّ الاحتفال ب​عيد المقاومة والتحرير​، أنّ هناك امتدادات سياسية ونيابية في ​مجلس النواب​ والمجتمع تسعى إلى إفراغ هذا النصر من محتواه الوطني وآثاره الإيجابية الكبيرة، ​لبنان​ياً وعربياً، وأنّ هذه الامتدادات تريد الثأر من المقاومة عبر ردّ الاعتبار للعملاء وتكريمهم بمنحهم العفو عن جرائمهم… مع أنّ هؤلاء العملاء هم الأكثر انخراطاً في العمالة والخيانة للوطن والشعب.. لماذا؟ وما هي النتائج المترتبة على تجرّؤ قوى وأطراف سياسية على خوض معركة إقرار عفو عن العملاء؟ وإلى أين يقود ذلك؟

أولاً، من تابع مشاهد ووقائع أيام التحرير المجيدة، من 20 أيار إلى 25 أيار من عام 2000، لمس كيف أنّ المقاومة، التي يعودُ إليها الفضل الأول في ​تحقيق​ هذا النصر، قد تمتعت بِمناقبية وأخلاقية عالية وانضباط صارم تمثل بعدم الثأر من العملاء، والعمل على إحباط مخطط الفتنة الذي سعى إليه الاحتلال بعد هروبه خلسة تحت جنح الظلام، على نحو فاجأ ميليشيا العملاء، بهدف تشويه وإجهاض انتصار المقاومة، والتغطية على الهزيمة الصهيونية التاريخية والاستراتيجية… هذا السلوك للمقاومة غير مسبوق في تاريخ مقاومات الشعوب، التي لجأت في أعقاب انتصارها إلى تنفيذ عمليات إعدام العملاء الذين خدموا الاحتلال ضدّ وطنهم وأبناء شعبهم. (مثال على ذلك، إعدام وشنق آلاف العملاء في ​باريس​ اثر انتصار ​الثورة​ الفرنسية على الاحتلال النازي) .. لقد تصرّف المقاومون بحرص كبير بأن سلّموا العملاء للجيش اللبناني وتركوا أمر محاكمتهم للقضاء اللبناني… لكن مع الأسف الشديد لم يصدر ​القضاء​ أحكاماً قاسية بحق العملاء تتناسب مع حجم الخيانة والجرائم التي ارتكبوها.. فجاءت الأحكام مخففة.. وهو طبعاً ما أفرح القوى السياسية التي وقفت ضدّ المقاومة وتعاملت مع العدو الصهيوني..

ثانياً، إذا كانت الأحكام المخففة التي صدرت بحقّ العملاء قد جرى تمريرها بفعل الضغوط التي مارستها بعض القوى السياسية والطائفية في ​السلطة​ السياسية، التي وفَرت الغطاء لإصدار مثل هذه الأحكام بحجة أنّ هؤلاء العملاء سلموا أنفسهم ولم يهربوا إلى كيان الاحتلال، إلا أنّ الأمر مختلف كثيراً بخصوص الموقف من العملاء الذين فضلوا الفرار مع جيش الاحتلال وأمعنوا في مواصلة ارتكاب جرم العمالة وخدمة العدو.. فهؤلاء لا يُمكن القبول بأيّ عفو عنهم بزعم أنهم مبعدون، في حين أنهم أخذوا قراراً إرادياً في الفرار مع جيش الاحتلال، ولم يقبلوا تسليم أنفسهم إلى ​الدولة اللبنانية​ والبقاء في بلدهم وتلاوة فعل الندامة على ما اقترفوه من خيانة وجرائم.. والآن بعد عشرين عاماً خرجت بعض القوى السياسية والأصوات النيابية لتطالب بأن يشمل قانون العفو عن ​السجناء​ العملاء في كيان العدو.. ولم يخجل البعض بالدفاع عنهم بذريعة أنهم كانوا مكرهين على اللجوء إلى كيان العدو خوفاً من تعرّضهمِ للانتقام، وهو طبعاً لا أساس له من ​الصحة​.. بدليل أنّ أحداً من العملاء، الذين ظلوا واستسلموا، لم يتعرّض أيّ منهم لأيّ أذى.. حتى أنّ الكثير من المراقبين وصفوا انتصار المقاومة بالنصر النظيف..

ثالثاً، إنّ أخطر ما يكون إقدام البعض على تبرير لجوء العملاء إلى كيان العدو وخوض معركة للعفو عنهم، بعد عشرين عاماً على انتصار المقاومة، التي حققت الكرامة والعزة للبنانيين وصنعت مجد لبنان، وكأنه يُراد من وراء ذلك، ليس فقط تبيض صفحة هؤلاء العملاء وعدم خضوعهم للمحاكمة في حال عودتهم، بل وأيضاً توجيه طعنة لتضحيات الشهداء والأسرى ونضالات المقاومين ..

رابعاً، إنّ عدم محاكمة العملاء وإنزال أشدّ العقاب بحقهم له تداعيات خطيرة على الصعيد الوطني على ثلاث مستويات:

المستوى الأول، يجعل من العمالة للعدو وجهة نظر تُمكن العميل النجاة من العقاب مهما ارتكب من جرائم بحق الوطن والشعب…

المستوى الثاني، يُشجع العملاء على مواصلة فعل الخيانة، وعدم الارتداع والشعور بالذنب…

المستوى الثالث، يُضعف الثقافة والمناعة الوطنية في مواجهة مساعي العدو الدائمة لاختراق المجتمع وتجنيد المزيد من العملاء الجدد…

خامساً، خطورة المساواة بين العدو الصهيوني والدول الشقيقة، لتبرير ما حصل من تعامل مع العدو وخيانة للوطن، فمثل هذا المنطق إنما يستهدفُ عن قصد عدم التمييز بين العدو والشقيق.. وبالتالي العودة إلى الترويج لمنطق الحياد في الصراع العربي الصهيوني، والتخلي عن قضية فلسطين، وتجاهل حقيقة أنّ كيان العدو الصهيوني الاستعماري العنصري إنما يشكل خطراً داهماً على لبنان، فهو لديه أطماع معلنة في ثروات لبنان، ولا يزال يحتلّ أجزاء من أراضيه في ​مزارع شبعا​ وتلال كفر شوبا وقرية الغجر، إلى جانب سعيه، بدعم أميركي، إلى تصفية الحقوق الوطنية العربية الفلسطينية وفي مقدّمها ​حق العودة​، وبالتالي فرض مخطط توطين ​اللاجئين الفلسطينيين​ في لبنان.. عدا عن أنّ وجود كيان الاحتلال وتشريع إقامة العلاقات العربية معه يشكل تهديداً لدور لبنان ووجوده كما قال الوزير الأسبق المرحوم موريس الجميّل في كراس له تحت عنوان «مشاريع ​إسرائيل​ و​سياسة​ النعامة»…

سادساً، إنّ تجرّؤ قوى وأطراف وشخصيات نيابية وسياسية على المجاهرة في المطالبة بالعفو عن العملاء في كيان العدو، في ظلّ انتصارات المقاومة وتعاظم قوتها، إنما يوفر ​البيئة​ السياسية والاجتماعية التي تُمكن العدو الصهيوني من الاستمرار في اختراق الداخل اللبناني. والعبث بأمنه واستقراره ، والعمل على حياكة المؤامرات ضد المقاومة.. فهذه القوى تقدمُ خدمةً كبيرة للعدو الصهيوني عندما تعمل على عدم تحريم التعامل مع العدو وتعتبر العلاقة معه مماثلة للعلاقة مع الشقيقة سورية التي يربطها بلبنان علاقات أخوّة وقربى وتاريخ ومصير واحد وأمة واحدة في مواجهة عدو مشترك هو العدو الصهيوني…

انطلاقاً مما تقدّم، نخلصُ إلى القول بأنّ العفو عن العملاء والسماح لهم بالعودة وعدم خضوعهم للمحاكمة، يوصل رسالة واضحة لعائلات الشهداء والأسرى المحرّرين، بأنه ليس أمامكم سوى خيار وحيد وهو اللجوء إلى الاقتصاص مباشرة من هؤلاء العملاء وتنفيذ حكم ​الإعدام​ بهم.. من هنا على ​المجلس النيابي​، ليس فقط منع تمرير مثل هذا العفو عن العملاء، وإنما أيضاً تجريم كلّ من يدافع عنهم ملتمسا لهم الأعذار لما ارتكبوه من فعل خيانة لمصلحة العدو، باعتبار ذلك جريمة كبرى ترتكب بحق الوطن والشعب..

إنّ محاكمة العملاء وإنزال أشدّ العقاب بهم هو السبيل:

أ ـ لتحصين المناعة والثقافة الوطنية في مواجهة العدو الصهيوني ومخططاته وحروبه الأمنية التي تستهدف إثارة الفتنة بين اللبنانيين، والثأر من هزيمته أمام المقاومة…

ب ـ وعدم اضطرار عائلات الشهداء والجرحى والأسرى.. إلخ… إلى أخذ حقهم بأيديهم والاقتصاص من العملاء..