سمر نادر​ - نيويورك

رغم فرض حظر التجوّل الليلي الذي فرضته السلطات في نيويورك، كانت لا تزال تُسمع في منتصف الليل صيحات الغضب المنددة ب​العنصرية​ مع صفارات سيارات رجال الشرطة، وما تزال الطوافات تحوم في سماء المدينة على علو منخفض منذ أربعة أيام بدون توقف. لم تكن ​اميركا​ تعلم ما يخبأ لها، ولم يتصور احد أن عشرين دولار مزورة سوف تقلب حياة الأميركيين رأساً على عقب. المظاهرات في المدينة الغاضبة نيوريورك، التي تحتضن موزاييك من الألوان والإثنيات، تحوّل هدوءها الكوروني فجاة الى ضجيج وتخريب، وكأن ​كورونا​ لم تمر من هنا. وضع المتظاهرون الكمامات على وجوههم، ولكن مسألة التباعد الإجتماعي أصبحت من الذكريات.

عشرات الألاف نزلوا في الليلتين الماضيتين الى شوراع بروكلين، ضمن مسيرات سلميّة، رافعين لافتات تندد بمقتل الرجل الأسود ​جورج فلويد​، ولكن المشهد جاء مختلفاً تماماً في مانهاتن، حيث كان المتظاهرون يَصلون في سياراتهم الجديدة، كل أربعة شبان في سيارة واحدة، يجوبون المدينة في موكب منظّم، وكأنهم ينتمون الى تنظيم، ينزلون عند الجادة الخامسة في المدينة، وهي الأفخم في العالم من حيث نوعيّة المحلات الفاخرة، يبدأون بالتكسير في واجهات المحال التجارية، ونهب محتواها. منظر أذهل الصحافيين المصورين، كما أذهل رجال الشرطة، الذين وقفوا مذهولين، فراحوا يتراجعون الى الوراء، لأن المخرّبين يحملون العصي وقنابل "المولوتوف"، وكأنهم في مهمة تنفيذية لعملهم. وقد عبر أحد الصحافيين المصورين عن هذا المشهد قائلاً: انا متأكد ألف في المئة ان وراء هذا التخريب جماعات وطوابير بالجملة.

ما يحصل هو غير اعتيادي في تاريخ ​الولايات المتحدة​، حتى ان الحزبين الديمقراطي والجمهوري، لأول مرة، توصلا الى بيان مشترك، حفاظاً على الأمن القومي، فأصدرا بياناً مشتركاً حول الأزمة، يدعو الى قمع المخرّبين وتوقيفهم مهما يكن الثمن.

وتعلمُ السلطات الأميركية جيداً ان وراء هذه الأعمال التخريبية جماعات ومنظمات، وهي تقوم بالتحقيقات لكي تعرف مصدر هذا الشغب وتقدمه للرأي العام. البارحة، صنّف الرئيس الاميركي ​دونالد ترامب​ و​البنتاغون​ تنظيم" أنتيفا" التي هي منظمة يسارية مناهضة للأفكار الرأسمالية والنيوليبرالية، تنظيماً ارهابياً . غير ان السلطات ما تزال تبحث عن أياد خفية تعبث في أمن البلد القومي.

ما وقعت به ​شرطة نيويورك​ من خطأ تاريخي، هو اهمال تصحيح الخلل في إدارتها، وعدم معالجة الأحداث البوليسية الأمنية بطريقة صحيحة. فالشرطي القاتل، ديريك شوف، يحمل في ملفّه البوليسي أكثر من 12 شكوى من سكان مدينة مينيسوتا، وقد توصل مع فريقه الى قتل رجل من أصل مكسيكي عام ٢٠٠٦، عندما كانوا في مهمة إلقاء القبض عليه. ويأتي مقتل جورج فلويد، المتهم بشراء علبة سجائر بعشرين دولار مزورة، على يد شخص موصوف بعنفه، ما هو الا خطأ اعترف به الظابط "شوفين" في التحقيق انه لم يكن ينوي قتله، غير ان دهْسَه على رقبة فلويد الذي كان يعاني من تصلّب في شرايين القلب، حسب نتائج التحليل، أدى الى عدم وصول الدم الى دماغه، فذهب في غيبوبة أدت الى وفاته في المستشفى.

صحيح ان ​الإدارة الأميركية​ مجتمعة، بدءاً من ​البيت الأبيض​، مروراً بالبنتاغون وصولا الى الكونغرس ومجلس الشيوخ، قد اتخذوا قراراً بالسماح لكل تظاهرة سلمية مرخصة، وبقمع وبتوقيف المخرّبين الذي لا يمتّون بأي صلة الى جوهر قضيّة مقتل فلويد الأسود على يد رجل أبيض، ولا علاقة لهم بالدفاع عن حقوق الإنسان. لا أحد يصدق في العالم ان استرجاع حقوق الإنسان تبدأ بعملية سرقة المحلات الفخمة والمولات. ما هكذا تثور الشعوب وتغضب، حسب ما أكد حاكم نيويورك إندرو كوومو.