خلال الأسبوع الماضي، تحوّلت ​الاحتجاجات​ الشعبيّة التي شهدتها الولايات المتحدة، على خلفية مقتل المواطن الأميركيّ من أصول أفريقيّة ​جورج فلويد​ على يد أحد رجال الشرطة، إلى "الحدث" بامتياز، في ظلّ التبعات المتوقعة لها على مستوى ​الانتخابات الرئاسية​ المرتقبة خلال ستّة أشهر، وفي ضوء استعادتها جدل العنصريّة داخل ​أميركا​.

وفيما ينتظر ​لبنان​ ما يصفها كثيرون بالموجة الثانية من احتجاجاته، والتي يُتوقّع أن تنطلق رسمياً خلال عطلة نهاية الأسبوع، بعد انقطاع قسري فرضته الظروف الصحيّة على امتداد الأشهر الماضية، فإنّ الحدث الأميركيّ تُرجِم انقساماً على جري العادة بين "المعسكرات" اللبنانية المتنوّعة، بين من رأى فيه "مصدر إلهام" ينبغي على "​الثورة​" أن تتقيّد به، ومن اكتشف فيه دليل "إدانة" لبلاد العمّ سام، التي وقعت في "فخّ" تنظيرها المستمرّ على سائر الدول.

وبين هؤلاء وأولئك، كان "الثابت" الوحيد أنّ "العين الواحدة" غابت مجدّداً عن المقاربة، إذ إنّ "المهلّلين" للاحتجاجات الأميركية ممّن وجدوا حتى في "الشغب" المرافق لها "عملاً مُبارَكاً"، كانوا أوائل "المحذّرين" من عودة الحراك الداخليّ، فيما كان الكثيرون من مؤيدي "ثورات" الشعوب يقلّلون من زخم ما يحصل أميركياً، على أساس أنّ الديمقراطيّة الأميركية متجذّرة، وبالتالي هي ليست بحاجة إلى شهادة من أحد...

ازدواجيّة وأكثر...

ليس جديداً الحديث عن "ازدواجيّة معايير"، محلياً وإقليمياً ودولياً، في مقاربة مختلف الاستحقاقات. سبق أن تثبّت هذا الأمر في العديد من المحطات والأحداث "المفصليّة"، حيث تبيّن أنّ كلّ نظامٍ يبني مواقفه على أساس مصلحته الخاصة، بعيداً عن أوهام "المبادئ" و"المثاليّات" التي يتمسّك بها كثيرون، وفقاً للطريقة "الشعبوية" الرائجة.

ومع ذلك، فإنّ ما حصل في الولايات المتحدة هذا الأسبوع يبدو كافياً ليجسّد، بمعزَلٍ عن أيّ أمرٍ آخر، صورة "نافرة" عن هذه "الازدواجيّة" العابرة للقارات، خصوصاً لجهة طريقة تلقّف الحدث الأميركيّ من جانب المحاور المتنازعة. وإذا كانت "الشماتة" التي لجأ إليها البعض في المحور السوري-الإيراني مفهومة، من باب "فشة الخلق" لكون الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ أدلى بتصريحاتٍ مناقضةٍ لما كان "يعظ" به الشعوب الأخرى، خصوصاً حين لوّح ب​إطلاق النار​ رداً على أيّ أعمال شغب أو نهب، فإنّ إظهار هذا المحور "غيرة" مبالَغاً بها على "مصالح" الشعب الأميركيّ بدا نافراً بشكلٍ كبير.

ولعلّ "ذروة" هذا النفور تتمثّل في دعوة ترامب إلى "الاستماع لمطالب شعبه"، حينما تصدر عن دولٍ تعاملت ولا تزال بعنف مع أيّ حركةٍ شعبيّةٍ، مهما كبر أو صغر حجمها، ولم تتردّد في "تخوين" أصحابها، والترويج لنظريات "مؤامرة" خلف استهدافها، مع أنّ ما هو متوافر للأميركيّين القادرين على إطاحة ترامب في الانتخابات خلال أشهرٍ قليلة، بعكس واقع الحال في أنظمة "الرجل الواحد"، ليس متوافراً لغيرهم، علماً أنّ ثمّة من "يغمز" من قناة عدد الرؤساء الأميركيين الذين مرّوا على جيلٍ واحدٍ لم يعرف، في مفارقةٍ مثيرةٍ للانتباه، أكثر من رئيسٍ واحدٍ في بعض دول المنطقة.

وفي المقابل، لم يكن أداء المحور المؤيّد للديمقراطية الأميركيّة أفضل بكثير، فهو إذ اعتبر أنّ ثمّة "تعمّداً" لحرف الحقائق، عبر "تسييس" الاحتجاجات الأميركيّة التي كان منطلقها "إنسانياً" بالدرجة الأولى، ومرتبطاً بـ"التهميش" الذي يشكو منه أصحاب البشرة السمراء في الولايات المتحدة، وقع بدوره في فخّ "المبالغة"، سواء لجهة الدفاع عن خيارات الرئيس الأميركي، ولو تطلّبت "الحزم" الذي يهبّون رفضاً له متى اعتمدته سلطات بعض الدول الأخرى، أو لجهة القول إنّ ما يحصل في أميركا عاديّ، ولا يستحقّ كلّ هذه الضجّة، في تكرارٍ ضمنيّ لطريقة تعامل البعض مع ​الأحداث السورية​ في أسابيعها الأولى، بل ضرب مواعيد لنهايتها، وهو ما تحوّل مع الوقت إلى مادةٍ للتهكّم على مطلقيها.

مصدر "إلهام"؟!

هي "العين الواحدة" التي تغيب عن مقاربة الاحتجاجات الأميركية، شأنها شأن الاستحقاقات المفصليّة الأخرى، من باب "الأجندات السياسية" التي تعلو ولا يُعلى عليها، ويتمّ بناءً عليها تحديد "السياسات"، وبالتالي "الاستراتيجيات" المطلوبة لكلّ مرحلة.

بيد أنّ ما توقف عنده كثيرون يكمن في "التزامن" بين اندلاع الاحتجاجات الأميركيّة، والموعد "المضروب" من قبل البعض لاستعادة أمجاد "الثورة" التي انطلقت في السابع عشر من تشرين الأول الماضي، ما دفع البعض إلى التساؤل عمّا إذا كانت أحداث أميركا يمكن أن تشكّل مصدر "إلهام" للمحتجّين اللبنانيّين، وهم الذين "يحسدون" نظراءهم الأميركيين على ما يعتبرونها "امتيازات" يتمتّعون بها، ولو كانت في منطق الدول التي تحترم نفسها، "حقوقاً بديهية" للمواطنين.

لا شكّ أنّ لهذا "الإلهام" الكثير من المقوّمات التي من شأنها أن تجعل النجاح حليف أيّ "ثورة" لبنانيّة في المبدأ، انطلاقاً من الواقع "المأسويّ" الذي يعانيه اللبنانيون، باعتراف المسؤولين عنهم، الذين خرج منهم من "يبشّر" بالمجاعة الآتية، والتي متى وصلت، ستُضاف إلى مئات "الأزمات" التي تخنق المواطنين، من الغلاء الفاحش في الأسعار الآخذ في التفاقم على رغم كلّ وعود المعالجة، معطوفاً على زيادة معدّلات البطالة وبلوغها مستويات قياسية في تاريخ البلاد، علماً أنّ الطبقة العاملة ليست في وضعٍ أفضل بكثير، بعدما فُرض على الكثيرين منها خفض في الرواتب يتجاوز نصفها، في حين أنّ ما بقي منها صامداً على حاله فقد قيمته، نتيجة انهيار الليرة.

لكن، وكأنّ كلّ هذه الأسباب غير كافية للثورة على النظام، ثمّة من وجد الفرصة سانحة لـ "تسييس" التحرّكات عبر "تفخيخها" بشعاراتٍ قد تكون مُحِقّة، بيد أنّها لا تشكّل "أولوية" في ضوء الواقع المعيشي والاجتماعي الراهن، علماً أنّ "الانقسام" حاصل حتى حول مطلب الانتخابات المبكرة، التي يرى كثيرون أنّها لن تكون أكثر من "مسرحيّة" تعيد الطبقة السياسية بقوة أكبر، طالما أنّ القانون الانتخابيّ الذي فصّلته على مقاسها لم يخضع لأيّ تعديل. وبين هذا وذاك، ثمّة من يسأل عن مصلحة "الثورة" في مثل هذه التعديلات "الجوهرية"، وهي التي كانت تبحث عن "تجديد" شبابها، بفرض المزيد من "التنظيم" الذي عانت من غيابه في جولاتها الأولى، علماً أنّ نظرية "المؤامرة" تحضر بين بعض الناشطين المدنيّين، ممّن لا يستبعدون ضلوع بعض أجهزة "السلطة" في التحريف الحاصل، بهدف "الانقضاض" على الثورة، ولو كان هدفاً بعيد المنال برأيهم.

أمر واقع!

هلّل الكثير من اللبنانيّين لاحتجاجات أميركا. بينهم من اعتبرها "فشّة خلق"، ومن رأى فيها "سحراً انقلب على الساحر"، وبينهم من قرأ فيها متغيّرات كبرى تتجاوز الداخل الأميركيّ، والانتخابات الرئاسية المرتقبة، ومساعي الرئيس ترامب للتجديد لنفسه.

هؤلاء "المهلّلون" أنفسهم سرعان ما التهوا بأمرٍ آخر، ألا وهو "شيطنة" الاحتجاجات الشعبيّة اللبنانيّة قبل تجدّدها. البعض رأى فيها "مؤامرة" تستهدف فريقاً سياسياً بعينه، والبعض الآخر حذّر ممّا يُحاك للوطن، عبر هذه الاحتجاجات، وشعاراتها الجديدة، وكأنّه كان راضياً أصلاً عن شعاراتها القديمة، ولا سيما شعار "كلن يعني كلن" الذي يسأل عنه اليوم.

ليست المشكلة في "التهليل" أو "الاستنكار"، ولا حتى في "ازدواجية المعايير" التي باتت "فاقعة"، ولكن قبل كلّ ذلك، في اعتبار ما هو "بديهيّ" في بلدٍ كلبنان، أمراً مسيَّساً، في حين أنّ "الثورة" في لبنان يفترض أن تكون "واقعاً"، بمُعزَلٍ عن "التحفّظات" الواقعيّة أيضاً، على بعض "التفاصيل" هنا أو هناك...