فتحت خطة ​الحكومة​ بنسختها الثانية الباب واسعاً لنقاشٍ وطني شامل. ولمّا كانت الخطة قد تعرضَّت بسلبيّة مطلقة للقطاع المصرفي ، المركزي والتجاري، ، فقد أعدَّت ​جمعية المصارف​ ورقة تشكّل مساهمتها من أجل تعافي ​لبنان​ المالي والاقتصادي.

وتضمّنت "مساهمة الجمعيّة" هذه خمسة توجّهات استراتيجية سنفصِّلها بعد التوقف عند الثغرات الأساسية في خطة الحكومة التي تتمحور حول إفلاس ​القطاع المالي​ كمقدّمة لوضع اليد عليه، وذلك من خلال تقدير حجمٍ مزعوم وهائل من الخسائر سنُظهر الخطأ المحاسبي والمنهجي في تقديرها.

باختصار ، نقدّر أن اتفاقاً جرى بين ​وزارة المالية​ وشركة لازار و​صندوق النقد​ الدولي فرض الأخير بموجبه ضرورة تخفيض نسبة ​الدين العام​ على الناتج المحلّي الإجمالي الى 100% على الأقل. وقدّرت الخطة الحكوميّة أن الناتج سيكون بحدود 24 مليار دولار، ما يعني جعل الدين العام أيضاً 24 ملياراً ، أي تخفيضه بمقدار 68 مليار دولار. هذه المقاربة تعني ضمناً اقتطاعاً بالقيمة نفسها من رساميل المصارف، وبخاصة من ودائع الناس بنسبة تراوح بين 60% و 80% من هذه الأخيرة. يبقى أن الإقتطاع من الودائع هو الخيار الأساسي لثلاثي واضعي الخطة: وزارة المالية، شركة لازار و​صندوق النقد الدولي​.

وقبل الدخول في منطلقات الخطة، من الضروري مساءَلة فرضية تصغير الناتج المحلّي الإجمالي من 49 مليار دولار عام 2019 الى 24 ملياراً عام 2020 وبالموازاة تضخيم الديون والخسائر والذهاب تالياً الى الاقتطاع (Haircut) وصولاً الى نسبة دين/الناتج دون المئة لإرضاء صندوق النقد. وفي اعتقادنا، يصعب أن ينخفض الناتج عن مستوى 40 مليار دولار، ويصعب أن تتخطّى قيمة الدين العام 39 مليار دولار نتيجة تدهور أسعار الصرف وأسعار اليوروبوندز، ما يجعل نسبة الدين الى الناتج بحدود 98% دون الحاجة الى أيّ إقتطاع على الرساميل وبخاصة على ​أموال المودعين​.

وطبعاً، الجمعية ترفض المسّ بودائع الناس. فعلى الرغم من القيود التي اعتمدتها المصارف على الودائع، ما زال حقّ الناس بودائعهم قائماً، وما زالت الفوائد عليها مدفوعة، وما زال استعمالها للمدفوعات الداخلية كاملاً. وللملاحظة، فقد استعمل أصحاب الودائع ودائعهم بكثافة لشراء ​العقارات​ المبنيّة وغير المبنيّة؛ واستعملوها كذلك بكثافة لإطفاء ديونهم لدى المصارف؛ واستعملوها أخيراً للإدّخار النقدي ب​الليرة​ و​الدولار​ في بيوتهم.

يسهل نقد خطة الحكومة بل ونقضها، ذلك أنها لا تُعالج جذور ​الأزمة​ التي تتمثّل بثلاثية هي: أولاً، الضعف المزمن لإنتاجية ​الاقتصاد اللبناني​ وغياب النمو وفرص العمل؛ وثانياً، استشراء الفساد ونهب مقدّرات البلد وإهدار إمكاناته؛ وثالثاً وأخيراً إضعاف ​الدولة​ وتغييبها عن أداء وظائفها الأساسيّة لمصلحة قوىً سياسية طائفية تنازعت مواردها وتقاسمت سلطاتها وأدارت مؤسّساتها العامة بكفاءة متدنّية.

وخروجاً من هذا الواقع الذي بات غير قابلٍ للاستمرار، ذهب واضعو خطة الحكومة إلى حلٍّ يقضي بإلغاء كل ديون الدولة بشحطة قلمٍ وفي يومٍ واحدٍ مقابل تحميلها للمصارف ول​مصرف لبنان​. بكلامٍ آخر، يقرّر واضعو الخطة بسهولة متناهية تصفير ديون الدولة وإظهارها خسائر في ميزانيّات المصارف ومصرف لبنان، ما يبرّر وضع اليد على ​القطاع المصرفي​ واستبداله بخمسة مصارف تتحكّم بملكيّتها وإداراتها بعض القوى السياسية. واستغلَّ واضعو الخطّة في تبرير فعلتهم نقمة الناس المحقّة ضد المصارف التي أقرضت الدولة واضطرّت لوضع قيود على التحويلات إلى الخارج بعدما تقلّصت احتياطيّات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية إلى مستوى دقيق يصعب معه الاستمرار في تمويل الاستيراد، خاصةً بما يفوق حاجة لبنان نتيجة التهريب والتسرّب إلى ​سوريا​.

لقد فات واضعي الخطة الانعكاسات الخطيرة لخيار التخلّف عن السداد الداخلي بما يتعدّى كثيراً ما يترتّب عادةً على التخلّف عن السداد الخارجي والذي اعتمدته الحكومة في 9 آذار 2020 بتسرّعٍ ودون أيّ رؤية اقتصادية تُخرج الاقتصاد من الركود.

بالعودة إلى موضوع الخسائر، تقرّر الخطة أن حجم الخسائر هو 241 ألف مليار ليرة لبنانية، أي ما يعادل 69 مليار دولار ( 3500 ل.ل. للدولار الواحد). وتوزّع الخطّة هذا الحجم المضخّم من الخسائر على ميزانية مصرف لبنان بقيمة 177 ألف مليار ليرة، أي بنسبة 73% وعلى ميزانيّة المصارف بقيمة 64 ألف مليار ليرة أي بنسبة 27%. ويكمن خطأ هذه المقاربة في اعتماد جانب الالتزامات غالباً دون جانب الأصول.

وبمراجعة دقيقة لمنهجيّة احتساب الخسائر، يتبيّن لنا أن مجملها لا يتعدّى فعلياً ثلث المبلغ المقدّر في الخطّة. والواقع أن بإمكان المصارف أن تتعامل ضمن القواعد المعتمدة دولياً مع تغيّر قيمة بعض موجوداتها نتيجة تدهور أسعار اليوروبوندز في الأسواق وتردّي نوعية محفظة قروضها للقطاع الخاص، وذلك بواسطة أموالها الخاصة ودون المساس بودائع الناس لديها.

ويعود تضخيم الخطّة لحجم خسائر القطاع المصرفي إلى ثلاثة أنواع من الأخطاء المنهجيّة الجسيمة. يكمن أوّلها في الخلط المتعمّد بين النقص في السيولة والملاءة. ويكمن ثانيها في اقتصار الحساب في الخطّة على الالتزامات دون أيّ اعتبار لكامل الموجودات التي تقابلها لا سيّما في ما يخصّ مصرف لبنان. أما الخطأ الثالث فيعود بشأن المصارف تحديداً إلى تجاهل قيمة الضمانات العينيّة المأخوذة مقابل محفظة ​القروض​ والى تجاهل المؤونات المكوَّنة. فليس بريئاً هذا الاستعجال في إعلان إفلاس القطاع المالي المركزي والتجاري! فعلاً ، يواجه لبنان أعتى وأعقد أزمة في تاريخه المعاصر، والحلُّ ما زال ممكناً بمزيج من التوجّهات والسياسات التي فصّلتها "مساهمة الجمعية" في خمسة محاور.

في مقدِّمة هذه المحاور تأتي إعادة هيكلة للدين العام تخفّف ما أمكن من الانعكاسات السلبيّة على المودعين وعلى الاقتصاد ككلّ، وتتجنّب التوقف عن الدفع الداخلي نظراً لأضراره المدمّرة على عودة الثقة والاستثمار. وتقدّر ورقة الجمعية الحاجة إلى التمويل الخارجي بحدود 8 مليارات دولار سنوياً بدلاً من 28 ملياراً ذهبت إليها خطّة الحكومة بتفاؤل يثير العجب لئلاّ نقول السخرية.

وتشتمل مقاربة الجمعية على إنشاء صندوق(GDDF) يحفظ ملكية الدولة الكاملة لأصولها ويسمح من خلال تخصيص جزء من مداخيل هذا الصندوق لمصرف لبنان بأن يشطب الأخير ديونه على الدولة المقدَّرة بـقيمة 40 مليار دولار. كما تقترح ورقة الجمعيّة أن تتفاوض المصارف مع الدولة لإعادة جدولة ديون المصارف لناحية إطالة آجال القروض وتخفيض مردودها بحيث تتراجع نسبة الدين إلى الناتج من المستوى الحالي (171%) إلى 74% في العام 2030 دون أيّ اقتطاع (Haircut) على الديون وعلى الودائع.

أما المحور الثاني لورقة الجمعية ، فيرتكز إلى تصحيح مالي يُنتج فائضاً أولياً معقولاً قدره 2,1% بدلاً من 4,8% من الناتج بحيث لا ينعكس سلباً على الأوضاع الاجتماعية لفئات الدخل اللبنانية الأكثر انكشافاً. ويقترح لهذا الغرض إنشاء شبكة أمان اجتماعي لا تقلّ عن 4% من الناتج المحلّي الإجمالي خلال كامل فترة التصحيح المالي.

ويتمثّل المحور الثالث ب​سياسة​ نقدية قائمة على توحيد سعر الصرف بحيث يُصحِّح بتدرّج مدروس الاختلالات في الموازين الخارجية وبحيث يضبط الضغوطات التضخمية القوية. ومن المهمّ أن يُعتمد نظام الصرف " العائم الموجَّه" حيث يتدخّل ​البنك المركزي​ لتجنّب التقلّبات الحادة.

ويتضمّن محور المعالجة الرابع إعادة هيكلة منظَّمة للمصارف، مصرفاً مصرفاً، تديرها السلطات النقدية والرقابية عملاً بقانون النقد والتسليف وفق المعايير المصرفية الدولية وضمن حيّز زمني كافٍ تسمح به اتفاقيات بازل. وتحدّد هذه المقاربة بنية السوق، بما فيه عمليات الدمج والاستحواذ.

أخيراً، تقترح مقاربة الجمعيّة في محورها الخامس تنويع الاقتصاد اللبناني وإعادة هيكلته بما فيه الإصلاحات البنيوية في أدائه ك​محاربة الفساد​ المستشري، وتخفيض كلفة تأسيس الأعمال ، بالإضافة إلى سياسات تخفّض حجم الأنشطة الاقتصادية الموازية وغير المرخّصة...

وعليه، ليس جائزاً أو مقبولاً أن تقرّر الحكومة إعلان إفلاس القطاع المالي وافلاس البلد على قاعدة احتساب خسائر مفترضة لا تمتّ الى الواقع بصلة. وحسناً وضعت لجان ​المجلس النيابي​ المختصّة يدها على خطّة الحكومة لمراجعتها منعاً لإشهار إفلاس البلد. وحسناً شكَّلت ​لجنة المال والموازنة​ لجنة فرعية لاستقصاء الحقائق، فأفسحت في المجال للأطراف المعنيّة، وتحديداً لوزارة المالية ومصرف لبنان وجمعية المصارف، أن تتحاور وتتوافق على معايير الاحتساب والأرقام ، فتفاوض الدولة عندها صندوق النقد الدولي بالحدّ الأدنى من التفاهم الداخلي.

نعم، الأزمة كبيرة وخطيرة. فلتتحمّل جميع الأطراف مسؤوليّتها ومترتّباتها بحيث لا نحكم على البلد بالسقوط لعقود طويلة قادمة. فالمطلوب أن تتضافر الجهود لإطلاق عجلة الاقتصاد الذي هو أولويّة الأولويّات في المرحلة المقبلة. إن التعاون الكامل لجميع الأطراف يمكن أن يجنّب لبنان أزمةً اجتماعيةً واقتصاديةً غير مسبوقة. أما الاستمرار في الخلافات وصراعات الزواريب، فهو الطريق السريع الى السقوط الكبير.