منذ العام 2005 وحتى اليوم، حصلت إحتكاكات عدّة بين مُواطنين لبنانيّين، بخلفيّات سياسيّة وطائفيّة ومذهبيّة وحتى مناطقيّة، على غرار تلك التي حصلت في ​بيروت​ الكُبرى ليل السبت–الأحد. وفي بعض الأحيان، كادت الأمور تتطوّر إلى ما لا يُحمد عُقباه، بسبب التعرّض بالسباب والشتائم لمسؤولين سياسيّين سابقين أو حاليّين، ولمقامات ولرموز ولشعائر دينيّة أيضًا. ولولا تدخّل ​الجيش اللبناني​ والقوى الأمنيّة الرسميّة بشكل حازم وسريع في كلّ مرّة، لكان من المُحتمل العودة إلى مرحلة دَمويّة وسوداء في ​تاريخ لبنان​. فلماذا يتكرّر هذا "السيناريو" بشكل دائم؟.

بعيدًا عن التكاذب الإعلامي اللبناني المُعتاد، وعن التصاريح الرسميّة التي تُخفّف من هول ما يحصل، وُصولاً إلى الحديث عن طوابير خامسة وعن أيادٍ إستخباريّة مُعادية، إلخ. إنّ أحد أهمّ أسباب سير لبنان على حافة الهاوية، هو أحقاد هائلة مَوروثة من جيل إلى جيل، وخاصة تلك التي أورثها قسم من الجيل الذي عاش الحرب في لبنان بين العامين 1975 و1990، إلى أبنائه. وليس من باب الصُدفة أن يُردّد الكثير من شباب اليوم، شعارات سياسيّة وُهتافات طائفيّة ومذهبيّة، لا يعرفون شيئًا عنها، سوى ما أخبرهم بها أهلهم ومعارفهم. وليس من باب الصُدفة أيضًا أن يتعرّض الكثير من شباب اليوم بالسُوء، لقيادات ولزعامات سياسيّة رحلت منذ عُقود، ولشخصيّات دينيّة غابت عن هذه الدُنيا منذ زمن بعيد، ولشعائر ولرموز ديانات مُغايرة عن دياناتهم، كونهم تعرّضوا لعمليّات "غسل دماغ" مُتكرّرة من قبل أهاليهم وأقاربهم ومعارفهم.

وبكل بساطة، يُمكن الحديث عن حُقد مُتوارث من جيل إلى آخر، وعن بُغض بُبّغائي لكل ما هو مُختلف، وهذه الظاهرة ليست مَحصورة ببعض المُتعصّبين في لبنان، بل هي مُمتدّة في العالم أجمع. وما يحصل في ​الولايات المتحدة​ الأميركيّة حاليًا خيرُ دليل على ذلك، حيث لم يخرج البعض من عقدة صراع القرون الماضية بين البشرة البيضاء والبشرة المُلوّنة، وحيث يكفي خطأ فردي في بعض الأحيان لإشعال أعمال شغب على مساحة آلاف الكيلومترات، مع مُسارعة البعض لإتخاذ تموضعات مُبرمجة مُسبقًا عن غير وجه حق، فيؤازر بعض السُود "شقيقهم" في لون البشرة-حتى ولوّ كان مُذنبًا أو مُجرمًا، ويؤازر بعض البيض صاحب البشرة المُماثلة-حتى لو كان تسبّب عَمدًا بقتل إنسان مُكبّل! وهذا الأمر ما كان ليحصل لولا توريث أحقاد من الماضي، حيث لم يخرج بعض البيض من عقدة تفوّقهم في مرحلة من المراحل، ولم يخرج بعض السُود من عُقدة عُبوديّتهم في تلك المرحلة!.

وبالعودة إلى لبنان، ورث الكثيرون جُروحًا مُتعدّدة من الحروب والإنقسامات التي سادت في لبنان منذ العام 1840 حتى الأمس القريب، مُضافة إلى مُعاناة البعض من عقدة تفوّق سُلطوي فُقِد مع مُرور الوقت، في مُقابل مُعاناة البعض الآخر من عقدة دنيويّة إجتماعيّة طبقيّة لم تبدأ بالتغيّر سوى في العُقود القليلة الماضية. ويكتمل المشهد الإنقسامي بخلافات سياسيّة عقائديّة الطابع، لها إمتداداتها الإقليميّة والدَوليّة، تُغذّيها إختلافات طائفيّة ومذهبيّة مُتجذّرة في العُقول والنُفوس. وكل ما سبق يُشكّل فتيل بارود قابلاً للإشتعال عند أيّ شرارة سياسيّة ودينيّة، نتيجة غياب التربية العلمانيّة والتفكير الديمقراطي والمُنفتح، وكذلك بسبب غياب الحسّ الوطني، وعدم الإنتماء إلى دولة قويّة وعادلة ومُنصفة...

ولا شكّ أنّ الخروج من هذه المُعضلة المُدمّرة والمَخفيّة تحت جمر الأحقاد المُتبادلة، لا يُمكن أن يتمّ بين ليلة وضُحاها، وبالتأكيد لا يُمكن أن يتمّ بالخُطابات الرنّانة وبكذبة الوحدة الوطنيّة غير المَوجودة. فالخروج إلى الدولة الواحدة والقويّة، وإلى الإنتماء الوطني، يتطلّب تربية علمانيّة مُعاكسة تمامًا للتربية الدينيّة المُتشدّدة والمُنغلقة، ويتطلّب أيضًا تربيّة سياسيّة مُنفتحة تُشجّع على الديمقراطيّة وعلى حقّ الإختلاف وعلى تقبّل الآخر، بدلاً من التقوقع السياسي المُتعصّب والأعمى والجاهل. وهذه التربية لا تستقيم إلا بعد تشعّب أكثر من جيل بها، وهي لا تصلح إلا متى ما شعر كلّ مُواطن بأنّه ينتمي إلى وطن واحد، وإلى دولة واحدة، وبأنّه فرد كامل الحُقوق والواجبات، لا يختلف بشيء عن فرد آخر فيها، بعيدًا عن الإستقواء بعدد أكبر من أبناء "المِلّة" الواحدة هنا، وبسلاح أقوى خارج سُلطة الشرعيّة هناك، وبدعم مَصلحي خارجي أفعل هنالك، إلخ.

وفي الإنتظار، لا يُمكن سوى التعويل على دور الجيش اللبناني والقوى الأمنيّة الرسميّة، لمنع التعدّي ولحفظ الأرواح والكرامات والمُمتلكات، بشكل عادل للجميع. وطالما أنّ العمل لبناء الدولة المُوحّدة والقويّة والعادلة لم يبدأ فعليًا بعد، من غير المُستغرب صُدور دعوات لفدراليّة هنا ولكونفدراليّة هنالك. فهذه الخيارات، تبقى أفضل بمئة مرّة، من وحدة وطنيّة زائفة، ومن أحقاد دفينة ومن غرائز سياسيّة وطائفيّة ومذهبيّة مُخيفة تنتظر "ضوءًا أخضر" لتفجيرها!.