كان من المفترض، نظرياً، أن يشكّل السادس من حزيران تاريخاً "مفصلياً" لتجدّد "انتفاضة" ال​لبنان​يّين على الطاقم السياسيّ الحاكِم منذ عقود، بل إنّ "تفاؤل" البعض ذهب به إلى حدّ الاعتقاد بأنّ مشهد هذا اليوم سيتفوّق على "نظيره" التشرينيّ، وسيعيد بلورة الخريطة السياسيّة من جديد.

ولعلّ الحديث الواسع عشيّة التحرّك، ولو من باب المصادر والتسريبات، عن تعديلٍ وزاريّ وشيك بدأ يُدرَس جدياً في أوساط ​الحكومة​ ومكوّناتها، جاء انطلاقاً من "هواجس" بعض الأطراف من أن تخرج الأمور عن السيطرة في الشارع مجدّداً، وتُفرَض الاستقالة على الحكومة.

لكن ما حصل يوم السبت، الذي بات البعض يصفه بـ"الأسود"، جاء في الاتجاه المعاكس تماماً، لأسبابٍ كثيرة، معلومة أو مجهولة. سريعاً، تحوّلت التحرّكات إلى "مشاغبات" فاقم من "خطورتها" المسّ بـ"الرموز الدينيّة"، ما استحضر تلقائياً عدّة "الفتنة" وضرورة مواجهتها.

وإذا كانت ​السلطة​ "استنفرت" بكامل عديدها وعتادها للتصدّي، فإنّ ثمّة من يقول إنّ الحراك الشعبيّ، الحقيقيّ والصادق منه، كان المتضرّر الأكبر ممّا حصل، ضررٌ ربما يتحمّل جانباً من مسؤوليته بقبوله بـ"استغلاله وتسييسه"، لكنّه يتحمّل أيضاً مسؤوليّة التصدّي له، إذا ما أراد أن يحفظ "المكتسبات" التي تحقّقت، وهي ليست بقليلة...

انتكاسة لـ"​الثورة​"؟!

عشيّة تحرّك السادس من حزيران، ساد "الارتباك" أوساط المجموعات المدنية التي لطالما كانت وراء نشاطات "الثورة" التي انطلقت عفوياً في السابع عشر من تشرين الأول، وتظلّلت بمطالب معيشية واجتماعية توحّد اللبنانيين بمختلف انتماءاتهم، وأولها الحقّ ب​الحياة​ في بلدٍ تكاد "الكرامة" تصبح فيه عملة نادرة.

وجاء هذا "الارتباك" نتيجة بديهيّة لدخول الكثير من القوى الحزبيّة والسياسيّة على الخطّ، بما يناقض "روحية" ​الانتفاضة​ التي أثارت الجدل عند انطلاقتها برفض انضمام السياسيّين، المعارضين منهم قبل الموالين، إلى صفوفها، منعاً لأيّ "استغلال" لا تريده، خصوصاً أنّ حراكها الذي حمل عنوان "كلن يعني كلن" لم يكن يستثني أحداً ممّن جلس يوماً على مقاعد السلطة، ولكنّه جاء أيضاً نتيجة رفع شعاراتٍ سياسيّة واستراتيجيّة، على غرار نزع سلاح "​حزب الله​"، قد يتّفق أو يختلف الكثيرون حولها، لكنّهم سينقسمون بالطبع على حجم "أولويتها"، ومدى القدرة على تطبيقها في الظرف الراهن.

وفي النتيجة، تجلّى هذا "الارتباك" أكثر من واضحٍ في مقاربة المجموعات المدنيّة، ولا سيما الذائعة الصيت منها، للدعوة إلى تحرّك السادس من حزيران. بين هذه المجموعات مَن قرّر الانكفاء والمقاطعة، اعتراضاً على إدخال الحراك في "متاهات" ستضرّه أكثر ممّا ستنفعه، لكن بينها أيضاً من قرّر المشاركة، بعد طول تفكير، بعناوينه وشعاراته الخاصة، بعيداً عن تلك التي لا تمثّله، على رغم صعوبة الفصل والتمييز، انطلاقاً من أنّ الغياب سيكون "ضربة" للحراك الحقيقيّ، وهو لم يعد خياراً أصلاً في هذه المرحلة.

بيد أنّ "الضربة" الحقيقيّة تمثّلت في ما وقع على الأرض، لا في الغياب، كما يرى الكثيرون، ممّن يعتبرون أحداث ليل السبت "انتكاسة" للحراك قبل غيره، ولو كان في معظمه "بريئاً" من الدم الذي يكاد يسيل في الشوارع، باعتبار أنّه من الداعين أصلاً إلى "شطب" الحدود والمتاريس "المُصطَنَعة" بين اللبنانيين، طائفياً ومذهبياً. ولا تقف هذه "الانتكاسة" عند حدود أحداث الشغب هذه، ولكنّها تشمل أيضاً حجم المشاركة الذي بدا "متواضعاً وخجولاً"، نتيجة دخول ​السياسة​ أيضاً على الخط، بعيداً عن "الآمال" بإحياء "الثورة" من جديد، بل بعودتها أقوى ممّا كانت في السابع عشر من تشرين نفسه.

حان وقت التنظيم!

برأي الكثيرين في صفوف مجموعات الحراك الأساسيّة، فإنّ "نظرية المؤامرة" تنطبق بشدّة على أحداث السبت التي شهدتها ​بيروت​، ولو أنّهم لا يحبّذون التداول بهذه النظرية، التي تلجأ إليها السلطات كلما أرادت تبرير سياساتها مع شعوبها، باعتبار أنّ الخطر الخارجيّ الذي تتعرّض له يفوق كلّ ما عداه.

بالنسبة إلى هؤلاء، ليس خافياً على أحد قيام الكثير من "الطوابير"، وربما الأجهزة السياسية والاستخباراتيّة بـ"التسلّل" إلى صفوف الحراك، الذي لم تُخفِ القوى السياسية المتكتّلة ضدّه يوماً رغبتها في "الإطاحة" به، وهو ما بدت أقرب إلى تحقيقه أكثر من أيّ وقتٍ مضى يوم السبت، باعتماد "​السلاح​" الأكثر فتكاً على هذا المستوى، وهو الطائفية والمذهبية، وبالتالي التحذير من دهاليز الوقوع في شركها، ولو أنّ الوقوع في "شرك" الطبقة السياسية يبقى أخطر.

لكن، وبمعزَلٍ عن مدى "صدقية" هذه الرواية، فإنّ الواضح أنّ "أجندة" السبت التي خرجت عن "الأجندة" المعروفة للحراك باتت توجب إعادة النظر بالكثير من "الثوابت"، وأولها قد يكون "التنظيم"، وصولاً إلى إعادة إثارة نقاش مفهوم "​القيادة​". فإذا كان مفهوماً أن يرفض الحراك، المتمسّك بعفويّته، فرز مثل هذه "القيادة" في الأيام الأولى للحراك، بل اعتبار أنّ هذا المطلب يهدف إلى "تحجيمه"، فإنّ الأمر لم يعد كذلك بعد مرور ثمانية أشهر على انطلاقته، علماً أنّ خياراتٍ كثيرة يمكن أن تُبحَث في هذا المجال، من بينها "القيادة الجماعية"، حتى لا يستأثر فردٌ واحدٌ بالمسؤولية، من باب أنّه "القائد" أو "الزعيم".

ولعلّ ما يعزّز "فرضيّة" الحاجة إلى مثل هذا التنظيم يتجسّد بما حصل السبت بالتحديد، إذ إنّ السماح لكلّ من هبّ ودبّ بالدخول على خط الحراك، بأيّ عناوين يريد، هو بالتحديد ما أفضى إلى الصورة "القاتمة"، والتي تناقض تلك التي نجحت الانتفاضة على امتداد أشهر في تكريسها وتجسيدها، على رغم المعارضة السياسية الشرسة التي كانت تواجهها. من هنا، فإنّ دور "التنظيم" من شأنه أن يحدّ من هذه "الفوضى" غير البنّاءة، عبر تحديد "الأولويات"، ومنع "الانقلاب" على الحراك من الداخل، كما حصل مع دخول قوى سياسيّة بأجنداتٍ معروفة على خطّه، وصولاً إلى حدّ "النطق" باسمه في مفارقةٍ مثيرة للانتباه.

الفرصة سانحة!

برأي كثيرين، فإنّ "المشهد الفتنوي" الذي طبع الساحات في السادس من حزيران "أطاح" بطريقه، بمشهد السابع عشر من تشرين الأول، وبكلّ المكتسبات التي تحقّقت منذ ذلك التاريخ، وهي ليست بقليلة، وكان من المفترض أن تؤسّس للبنان جديد، يشترك جميع اللبنانيين، موالين ومعارضين ومستقلين، بالحلم به.

لهذا الرأي الكثير من المبرّرات الموضوعية والمنطقية، باعتبار أنّ من نجح في "حرف البوصلة"، استطاع أن يزيل الصورة "الورديّة" عن الحراك، ويحمّله مسؤولية "الفتنة" التي لم يعد ينفع الاكتفاء بلعن من يوقظها وهي المستيقظة دوماً على ما يبدو، بعدما حاول تحميله في السابق مسؤولية ​الأزمة​ الاقتصاديّة والاجتماعية.

لكن، مع ذلك، فإنّ الفرصة لا تزال سانحة أمام الحراك الشعبيّ الحقيقي لاستعادة زمام المبادرة، وما يساعده في ذلك أنّ المقوّمات المُتاحة له أكثر من أن تُعَدّ وتُحصى، لجهة الوضع المعيشي "المتفاقم"، وسط الأزمات التي لا تنتهي، من ​البطالة​ والغلاء، وما بينهما.

الفرصة سانحة، لكن على الحراك أن يعرف كيف يتلقّفها، لأنّ إخفاقه في ذلك لن يؤدي إلى الإطاحة به فحسب، بل إلى تحطيم آمال وأحلام اللبنانيين بـ"التحرّر" من نظام الفساد والمحسوبيات، والوصول إلى دولة القانون والمؤسسات التي يطمحون إليها...