نتائج الحُروب لا تُحدّدها جولات القتال وحدها، والأمثلة على ذلك مُتعدّدة مُنذ فجر التاريخ حتى اليوم. فكمّ من قلعة كانت أبيّة على الغُزاة ثمّ سقطت تحت وطأة الحصار والجوع، وكمّ من مدينة صَمَدت ​عسكري​ًا بوجه أقوى الجيوش قبل أن تنهار بعد نفاذ مخزونها من المأكل والمشرب. وما يَحصَل في ​الشرق الأوسط​ حاليًا لا يختلف كثيرًا عمَّا سَبَق، حيث أنّ ما حُكي عن إنتصارات عسكريّة للدُول المُصنّفة ضُمن "محور المُقاومة والمُمانعة"، إنهار وينهار تحت وطأة الضربات الإقتصاديّة و​المال​يّة المُتتالية،والمُتأتية من حصار شبه دَولي، ومن عُقوبات أميركيّة شديدة القساوة. فكيف هي الصُورة إقليميًا، وما موقع ​لبنان​ فيها؟.

في ​سوريا​، وبعد أن فشلت الإدارة الأميركيّة في الإحتفاظ بتواجد عسكري يُذكر ضُمن الأراضي السُورية، وبعد أن فقدت ورقة تفاوض إقليميّة مُهمّة، لصالح كلّ من ​روسيا​ و​إيران​، و​تركيا​ إلى حدّ ما، عادت ​واشنطن​ لتفرض كلمتها في الميدان السُوري، من بوّابة الحصار الإقتصادي والمالي الخانق الذي تتعرّض له سوريا منذ سنوات. واليوم، ومع رفع مُستوى هذا الحصار إلى آفاق أعلى، بفعل موجة جديدة من العُقوبات تحت مُسمّى "قانون قيصر" الذي دخل مرحلة التطبيق الميداني، إنهارت العملة السُوريّة أكثر فأكثر، وعمّ ​الفقر​ والعوز مُختلف أنحاء سوريا، وصار حلم إعادة الإعمار أبعد من أيّ وقت مضى، نتيجة خشية أيّ جهة أو شركة من التعرّض لعُقوبات دَوليّة في حال حاولت الإستثمار في مناطق سيطرة النظام السُوري. وبالتالي، عادت واشنطن عبر العُقوبات الإقتصاديّة لتُمسك بورقة تفاوض مُهمّة على مُستوى الملفّ السُوري، كانت قد فقدتها كليًا خلال العمليّات العسكريّة هناك.

في الأراضي الفلسطينيّة المُحتلّة، إنّ قطاع غزّة الذي كانت قد سيطرت عليه حركة "حماس" خلال العام 2007، بدعم إيراني كبير في حينه، شكّل نموذجًا لافتًا للقُدرة على المُقاومة المُسلّحة بوجه ​الجيش الإسرائيلي​، لكنّ ثمن هذا الإنتصار العسكري كان باهظًا حياتيًا ومعيشيًا. وقد أظهر أحدث إحصاء من قطاع غزّة، حيث الإكتظاظ السُكّاني يبلغ أعلى الدرجات على مُستوى ​العالم​ أجمع، أنّ أكثر من 75% من ​الشعب الفلسطيني​ عاطل عن العمل ويعيش تحت خطّ الفقر! والأخطر أنّ إسرائيل تتحكّم بكل قطرة ماء وبكل رغيف خُبز يدخل إلى القطاع، ما يجعل غزّة تحت رحمة الجيش الإسرائيلي الذي يشدّ الخناق حينًا ويُرخيه حينًا آخر، حسب التطوّرات الميدانيّة وتبعًا لمصالحه.

حتى في العراق، وبعد فشل الحُروب الأميركيّة المُتتالية في إقامة نظام سياسي مُوال لواشنطن، وبعد إضطرار ​الجيش الأميركي​ للإنسحاب من العراق تحت وطأة الهجمات الدامية ضُدّه، عادت الإدارة الأميركيّة لتحظى بنُفوذ جيّد لدى ​بغداد​، بفعل الورقة الإقتصاديّة أيضًا وأيضًا. وبدًلا أنّ يكون العراق-وهو دولة نفطيّة، غنيًا وشعبه يعيش في بحبوحة، يرزح ربع الشعب العراقي تحت خطّ الفقر، وتتعايش أغلبيّة العراقيّين مع صُعوبات حياتيّة ومعيشيّة كبيرة، بفعل تأثّرها بشكل غير مُباشر بالعُقوبات على إيران، ونتيجة تعرّضها بشكل مُباشر ل​سياسة​ تضييق إقتصادي، ولسياسة خارجيّةتمنع الإستثمارات الدَوليّة لأهداف سياسيّة.

وفي ​اليمن​ لا تختلف الصُورة كثيرًا، وإذا كان صحيحًا أنّ "​أنصار الله​" نجحوا عبر الدعم الإيراني الكبير لهم، في فرض مُعادلات عسكريّة ميدانيّة تؤثّر على المملكة العربيّة السُعوديّة وعلى جزء كبير من منطقة الشرق الأوسط، فإنّ الأصحّ أنّ الشعب اليمني يعيش ظُروفًا حياتيّة مأساويّة على كلّ المُستويات. وفي مناطق سيطرة "الحوثيّين"، المسألة لا تقتصر على نسب ​البطالة​ الهائلة، أو على نسب الفقر المُرتفعة جدًا، بل تطال أيضًا نسب الأمّية وغياب فرص التعليم، وإنعدام الحدّ الأدنى المَطلوب للقطاع الصُحّي، إلخ. وبالتالي، إنّ كل النتائج العسكريّة المُحقّقة ميدانيًا من قبل "الحوثيّين"، تُصبح فارغة المَضمون عند مُعاينة الواقع المعيشي والحياتي للمدنيّين الذين يعيشون في كنفهم، نتيجة إستخدام سلاح الحصار الإقتصادي ضُدّهم، إن لم يكن بشكل مُباشر من جانب واشنطن، فبشكل غير مُباشر عبر حلفاء لها.

وبالنسبة إلى لبنان، صحيح أنّ ​الأزمة​ الإقتصاديّة والماليّة الحادة التي يُعاني منها حاليًا، هي وليدة مجموعة من الأسباب المُتراكمة، لكنّ الأصحّ أنّ عامل الضغط الإقتصادي الخارجي على لبنان حاضر بجزء كبير منها. وبالتالي، إضافة إلى سياسات إقتصاديّة وماليّة حُكوميّة ومصرفيّة فاشلة، و​سرقات​ مَوصوفة من ماليّة الدَولة، وهدر مَشبوه للمال العام، وإرتدادات سلبيّة مُدمّرة لسلسلة منالأزمات الأمنيّة والسياسيّة المُتلاحقة، إنّ جزءًا من الإنهيار الحالي في لبنان يعود إلى تمنّع العديد من الدول العربيّة والغربيّة عن مدّ يد المُساعدة له، بسبب إتهامات خارجيّة بخُضوع نظامه لسيطرة "حزب الله"، وبسبب دوران الدولة اللبنانيّة ضُمن حلقة النُفوذ الإيراني الإقليمي على المُستوى الإستراتيجي العام. ولا يبدو أنّ مُحاولات نأي لبنان بنفسه عن صراعات المنطقة قد أعطت نتائج إيجابيّة، ولا يبدو أيضًا أنّ مُحاولات تحييد لبنان من الإرتدادات السلبيّة المُدمّرة لما يُسمى "قانون قيصر" على سوريا، تسير بشكل ناجح حتى تاريخه.

في الخُلاصة،بوسع إيران، التي هي الدولة التي تُدرّب وتُسلّح وتموّل وتدعم الجماعات العسكريّة المُوالية لها في كلّ من لبنان وسوريا والعراق واليمن والأراضي الفلسطينيّة، التبجّج بأنّها نجحت في حروبها العسكريّة غير المُباشرة، وبأنّها صارت تملك أذرعًا عسكريّة إقليميّة، تأتمر بقيادتها وتعمل بتوجيهاتها، وتُشكّل ورقة تفاوض فائقة الأهميّة في خدمة مصالحها الدَوليّة. لكن في المُقابل، إنّ شُعوب هذه الدُول صارت كلّها تُعاني من نسب فقر وعوز مُخيفة، نتيجة دفعها ثمن التموضعات السياسيّة لأنظمة دُولها. والمُعادلة بسيطة، كلّما إبتعدت قيادات هذه الدُول عن "محور المُقاومة والمُمانعة" المَدعوم إيرانيًا، كلّما خفّت عنها العُقوبات وصارت أمامها فرصة لعيش حياة كريمة، وكلّما أقتربت قيادات هذه الدُول من السياسة الإيرانيّة، كلّما كان عليها دفع المزيد من الأثمان الباهظة إقتصاديًا وماليًا.