يعيش حزب "القوات اللبنانية" هذه الفترة مرحلة من "الحركة الزائدة" انما من النوع الذي يمكن ادراجه في خانة الابتعاد عن الافرقاء الآخرين وليس التقرّب منهم، اكانوا من الاخصام ام من الحلفاء السياسيين السابقين. وبعد الاحداث التي شهدتها منطقة عين الرمانة، والتي اتفق الاطراف المعنيون فيها على عدم تحديد المسبّب المباشر بها، رغم فداحة خطورتها وتهديدها السلم الاهلي وحساسيّة الوضع، انفجرت قنبلة لا تقل دوياً عن احداث الشارع، انما من الوجهة السياسية، عبر حديث صحافي لرئيس الحزب ​سمير جعجع​ عن رئيس ​تيار المستقبل​ النائب ​سعد الحريري​، وجده الاخير "مستفزاً" له ورد عليه بقوة، في ظل عدم صفاء العلاقة بين الطرفين منذ فترة وتحديداً منذ الاستشارات النيابية لتسمية خلف للحريري بعد استقالته من الحكومة. اللافت في موقع القوات الحالي، انها تستمر في التباعد عن الافرقاء الآخرين، بغضّ النظر عن صوابيّة مواقفها ام عدمها، اذ لا يزال الخلاف على حاله مع "​التيار الوطني الحر​"، وبقيت خطوط التوتّر العالي قائمة مع قصر بعبدا، ووضعت المتاريس في وجه السراي الكبير، وباتت الطريق مع بيت الوسط مقطوعة بالسواتر الكلاميّة، ويستمر "الخط الازرق" الحدودي القائم مع ​حزب الله​ على حاله، فيما تشهد الحركة على خط ​عين التينة​ نشاطاً عادياً وهي لم تنقطع يوماً.

يسأل الكثيرون عن سرّ هذا التباعد القائم، ومغزى الاستراتيجيّة الجديدة التي تتّبعها "القوات" وقدرتها على تحقيق الاهداف، مع العلم ان احزاباً اخرى انتهجت هذا النهج سابقاً ولم يوصلها الى اي نتيجة، لا بل زاد الامور تعقيداً. صحيح ان جعجع نجح في بعض الاوقات في رفع نسبة شعبيّته، مستغلاً اخطاء وقع بها الآخرون، ولكن هذا المسار ليس تصاعدياً فقط، ولن يتأخر، اذا لم يشهد ايّ تغيير، في ملاقاة خط انحداري سيوجب على جعجع اعادة حساباته بشكل سريع. ويرى البعض ان رئيس الحزب يدرك تماماً هذا الامر، وهو غير غافل عنه، وان ما يقوم به حالياً يندرج في اطار حصد ما امكن من الشعبية في ظل ركود سياسي سبّبه وباء كورونا، ووضع اقتصادي سيء انما لا يمكن الحكم عليه قبل انتظار نتائج المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، واعادة النشاط التدريجي الى التحركات الشعبية. ويضيف هذا البعض انه فور الوصول الى الغاية من هذا الهدف، سيبادر جعجع الى تغيير الاستراتيجية ويبادر الى اعادة الحرارة الى بعض الخطوط مع عدد من الافرقاء، مع الابقاء على التباعد مع آخرين، للعودة الى الساحة السياسية بزخم.

وفي مقابل هذا الرأي، هناك رأي آخر يشير الى ان رهان جعجع يلتقي مع رهان رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ وبعض الاحزاب والتيارات الاخرى، حول عدم قدرة الحكومة على الاستمرار، وبالتالي فإن معارضته الشرسة في هذه الفترة ستجلعه حكماً من ابرز المؤهلين للعب دور مهم في اي حكومة جديدة ستبصر النور، اياً يكن اسم رئيسها، لان من غير المنطقي وصول حكومة اخرى مشابهة للحالية، ولا يمكن عدم "مكافأة" المعترض في الوقت الراهن وبصوت عالٍ عبر اغفال مشاركته الفاعلة في القرارات السياسية في المرحلة المقبلة. ولكن، على ارض الواقع، يمكن لهذه النظرية ان تسقط بسرعة، لانه وفي حال سلّمنا جدلاً برحيل الحكومة الحالية، فإن الاطراف الآخرين لا يمكن استبعادهم او اسقاط مواقفهم، وبالتالي ستكون هناك جبهة متينة في وجه اي دور اساسي لـ"القوات" في المرحلة المقبلة، ولو تغيّرت صورة الاوضاع على الساحة المحلية والاقليمية، فيما يعلم الجميع ان التدهور الكبير في الشارع لا يكون بقرار محلي، ولو ان تنفيذه منوط باللاعبين المحليين، الا انه يحتاج الى غطاء دولي جامع ولا يمكن لدولة واحدة ان تفرضه مهما كانت مكانتها، ولا يزال مستبعداً السماح بحصول مثل هذا التفلّت الخطير على الساحة اللبنانية.

النظريّة الاقرب الى الواقع تفيد بأن جعجع ينتظر حصول التغييرات ويقضي وقته حالياً في تعزيز قاعدته الشعبيّة في البيئة المسيحيّة تحديداً، الى ان يحين الوقت لعودته الى مطبخ القرارات.